على رغم المخاوف والمحاذير التي لازالت تغلف قراءات وتوقعات بيوت الخبرة الاستشارية وتقارير وإعلانات المنظمات الاقتصادية الدولية، بشأن تجاوز الاقتصاد العالمي لذروة أزمته وعودته للانتعاش ثانية، إلا أن عدداً من علامات ومؤشرات الأداء التي بدأت ترسلها وحداته المختلفة تفيد بأن الأسوأ قد أصبح وراءه وأنه في طريقه لتحقيق أول عودة حقيقية لجادة النمو بعد بضعة شهور، أي بتجاوز وحداته المفصلية: الاقتصاد الأمريكي والاقتصاد الأوروبي لسلبية النمو التي دخل دوامتها خصوصاً في الربع الرابع من العام 2008 والربع الأول من العام .2009 فلسوف يتحسن أداء النمو السالب للاقتصاد العالمي من 6,2-٪ إلى 3,2-٪ هذا العام ونمو الاقتصاد الأمريكي من 3,3-٪ إلى 7,2-٪ مقارنة بعام .2008 بل إن الاقتصاد الأمريكي سيتحول في العام 2010 إلى النمو الإيجابي بواقع 9,1٪، بينما ستحقق أوروبا نمواً وإن كان ضئيلاً لا يتجاوز 3,0٪ إلا أنه يعد تطوراً مهماً قياساً بالعام الجاري الذي سيسجل نمواً سالباً قدره 4,4-٪. الاقتصاديون المتفائلون يعتبرون هذه الأنباء مؤشرات جيدة على تجاوز الأزمة، بينما يرى الاقتصاديون ذوو النظرة المتشائمة أنها مجرد زفرة غير مستديمة لكبوة أخرى قادمة في الطريق في أحسن الأحوال ولكساد مدمر في أسوأه. ومع أن كل فريق لديه ما يبرر به موقفه، إلا أن الواقع أن من الصعوبة بمكان عودة الأمور إلى نصابها سريعاً، ذلك أن الصورة المبشرة التي أرسلتها بعض علامات التحسين في البيئة الاقتصادية لازالت غير واضحة بما يكفي، اعتباراً بأن الركود الحاد الذي هز النظام المالي والاقتصادي العالمي في الصميم لازالت آثاره باقية وستبقى كذلك إلى أمد ليس بالقصير، متجسدة، على سبيل المثال، في معدلات نمو بطيئة ومنخفضة ووجود طاقات فائضة في مختلف قطاعات الاقتصاد الحقيقي، فضلاً عن صعوبات التمويل طويل الأجل. وقد يكون اللجوء لرفع الضرائب كخيار لا غنى عنه لتخفيف الضغط الواقع على المالية العامة، وهو ما لا يخدم النمو طويل الأمد ويرجح فرضية المتحفظين على التفاؤل الشائع بشأن التحسن الملحوظ في أداء وحدات الاقتصاد العالمي. البنك الدولي هو الآخر لم يجرؤ أن يسرع للتهليل لمظاهر الانتعاش التي بدأت تظهر على الاقتصادات العالمية منذ الربع الأول من العام الجاري. فلقد اعتبر رئيس البنك روبرت زوليك أن عدم الاستقرار سيستمر في العام 2010 خصوصاً بالنسبة للصادرات والعائدات السياحية في الدول النامية. وبدوره أوضح دومينيك شتراوس رئيس صندوق النقد الدولي أن الأزمة المالية العالمية تأخذ انعطافة على ما يبدو (لاحظ عبارة على ما يبدو)، غير أنه مازالت هناك مخاوف من ارتفاع البطالة والمشاكل الناتجة عنها. جاء ذلك على هامش الاجتماعات السنوية للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي التي عقدت في إسطنبول الجمعة 2 أكتوبر .2009 ملاحظة هامة جداً تقتضي التأمل والتبصر فيها من جانب المعنيين بأمر رصد ومتابعة الأوضاع الاقتصادية العالمية الراهنة، وهي تلك المتمثلة في عدم ارتباط انفراج حالة الاقتصاد العالمي بما ستؤول إليه أوضاع الاقتصاد الأمريكي كما كان الحال دائماً وأبداً منذ تربع الاقتصاد الأمريكي على عرش الاقتصاد العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، وإنما تحول المقود نحو آسيا حيث يتوقع أن تحقق الصين هذا العام نمواً يصل إلى 6٪، فضلاً عن بقية الاقتصادات الآسيوية الصاعدة المرتبطة بصورة وثيقة بالتجارة الدولية مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان وتايلند وماليزيا وإندونيسيا التي ضخت، كما الصين، جرعات مالية تحفيزية ‘لفك الارتباط’ بالأزمة وخفضت أسعار الفائدة بصورة كبيرة (ضخت الصين في شهر نوفمبر العام الماضي 4 تريليون يوان أي ما يوازي 586 مليار دولار، وخفضت الفائدة بواقع 216 نقطة إلى 31,5٪). بعض أوساط المشيخة الفكرية الاقتصادية في الغرب التي يبدو أنها متأثرة بالتفوق والتشامخ (Superiority) الغربي، لم تخف تحفظها (أو ربما حسدها من تبدل معادلة القاطرة الرئيسية الدافعة للاقتصاد العالمي) .. تحفظها على هذا الأداء الباهر للاقتصادات الآسيوية الرائدة وتجاوزها في ظرف زمني قياسي للأزمة المالية/الاقتصادية العالمية، وذلك باعتبارها أن مصدر هذا النمو هو غير مستدام وهو هنا حِزَم المحفزات المالية التي يمكن أن تخلق نمواً مؤقتاً. السؤال: وما الضير في ذلك، حتى لو كان مفعول هذا الحقن التنموي مؤقتاً، فإنه على الأقل يوفر مساحة كافية تُمكِّن الاقتصادات الآسيوية من التكيف مع طوارئ الأزمة ريثما تستعيد بقية وحدات الاقتصاد العالمي وتحديداً الاقتصاد الأمريكي والاقتصاد الأوروبي زمام مبادرة نموها وتعيد لقطاعات التصدير الآسيوية وظيفتها الهامة المتمثلة في تمويل حوالي نصف نموها. ثم إن الصين والهند وبعض البلدان ذات الاقتصادات الصاعدة في آسيا قد سلكت طريق تعظيم دور الاستهلاك المحلي في تخليق إجمالي الناتج المحلي على غرار نماذج آسيوية معروفة في هذا المجال مثل إندونيسيا والفلبين وفيتنام وباكستان وسري لانكا وبنغلاديش التي تصل نسبة مساهمة الاستهلاك المحلي في إجمالي ناتجها المحلي إلى 65%.
صحيفة الوطن
6 ديسمبر 2009