المنشور

تباينات الأفكارِ الدينية

إن الأفكار الدينية مثل غيرها من الأفكار السياسية تعكسُ تناقضات مستويات المعيشة لدى المؤمنين بها. حين تكون ثمة ثورةٌ ويتفقُ عليها الناسُ، أو ينخرطون فيها نتيجة لانتصارِها وسيادتِها، وتؤسسُ قيماً عامةً، تفيدُهم في معاشِهم وترفعُ من شأنِهم زمنا معينا، فإنهم يتمسكون بهذه القيم العامة إلى حين، ثم يختلفون على تفسيرها حين تفترقُ سبلُ عيشهم، وتتعددُ أنصبتُهم من مكاسب الثورة، تصبح هناك قيم قديمة وقيم جديدة، وهناك من يتمسك بحرفية النصوص ومن يؤولها، وهناك من يُخونُ ويكفرُ ومن يتسامح، والمرجعيةُ هي النصوصُ الدينية التي لا يمكن الاتفاق عليها، فكلُ فرقةٍ لديها تفسيرٌ مختلفٌ عن الفرقة الأخرى، والمرجعيةُ أوضاعٌ اجتماعية لا تستقر على حالٍ وتناقضاتُها عميقةٌ لا يمكنُ التوفيق بينها كليا إلا بالخروج من النصوصية الدينية.
يحدثنا التاريخ في الزمن الأموي عن الخوارج الذين رأوا انهم حفظة النصوص الإسلامية المخلصون.
استولى أبوحمزة الخارجي على حكم المدينة المنورة في زمن مروان بن الحكم مدة ثلاثة اشهر، فعبر عن رؤيته للدين من خلال وضعه الاجتماعي فقال:
“تعلمون يا أهل المدينة، انا لم نخرجْ من بلادنا بطراً ولا أشراً، ولا لدولةٍ نريدُ أن نخوضَ فيها النار، وإنما أخرجنا من ديارنا أنا رأينا مصابيحَ الحق طـُمست، وضعف القائل بالحق، وقـُتل القائمُ بالقسط، فلما رأينا ذلك ضاقتْ علينا الأرضُ بما رَحُبت، وسمعنا داعياً يدعو إلى طاعة الرحمن، وحكم القرآن، فأجبنا داعي الله “وَمَن لا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْض” (الأحقاف: 32)، أقبلنا من قبائل شتى، النفرُ منا على بعيرٍ واحدٍ عليه زادهم وأنفسهم، يتعاورون لحافاً واحداً، قليلون مستضعفون في الأرض، فآوانا الله وأيدنا بنصره، فأصبحنا والله بنعمةِ الله إخواناً، ثم لقينا رجالكم بقديد فدعوناهم إلى طاعةِ الرحمن وحكمِ القرآن، ودعونا إلى طاعةِ الشيطان وحكم بني مروان، فشتان لعمر الله بين الغي والرشد، ثم أقبلوا نحونا يهرعون قد ضربَ الشيطانُ فيهم بجرانهِ، وغلتْ بدمائِهم مراجلُه، وصدقَ عليهم ظنهُ فاتبعوه، وأقبل أنصارُ الله عصائب وكتائب، بكلِ مهندٍ ذي رونق، فدارتْ رحانا واستدارت رحاهم، بضربٍ يرتاب منه المبطلون”.
تصويرُ أبي حمزة تصويرٌ قصصي أدبي شائق ومعبر يستمدُ معينه من لغةِ نجد، وقد أفلحَ في عرضِ صحبهِ الفقراء الذين كان النفرُ منهم يركبون على بعير واحد، وتتلحفُ الجماعةُ بلحاف واحد، مما يصور ضنك العيش، في حين جاءوا إلى بشر في المدينة منعمين، يعيشون في بيوت فارهة، وقد انتشر الخدم والعبيد بينهم، ومالوا للرفاه والغناء، فكان ذلك يعبرُ عن تباين معيشي كبير بين مدن الإسلام وباديته.
لكن أبا حمزة نظر إلى ذلك بعين دينية متشددة، تعتبرُ تباينَ المعيشةِ كفراً، نظراً لأن بني أمية سرقوا أملاكَ المسلمين العامة ووظفوها لأنانيتهم، وكان ذلك في الثقافة الدينية الموحدة، خروجا عن الدين. لكنه لم يقتل بني أمية فقد كانوا بعيدين، لكنه قتل أي شخص من قريش، فهم قبيلة الكفر، وسامح من ليس من قبيلة قريش، فهي عداواتٌ قبلية أخذت شكلا دينيا.
إن أباحمزة يتأولُ القرآنَ بما تريد مصلحته وسيطرته، فيقطعُ آيةً من سورة، ويجعلها لخدمةِ فكره السياسي، يدل بها على كفرِ خصومهِ وخروجهم عن الدين، فهو يجعل داعي الله مطلقاً وقد كان مخصوصاً بالفترة النبوية، ويعممها عليه ويوجهها لنفسه ويجعلُ من شخصهِ نبيا، “ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجزٍ في الأرض”، لقد فهمَ الآيةَ مقطوعةَ السياق التاريخي، وجعلها ذاتيةً موجهةً لكيانه المتضخم، كأن اللهَ يخاطبهُ مباشرة، فاندفعَ يقتلُ المسلمين.
لقد ذبح مسلمي المدينة المنورة بالمئات وهو يرى خروجهم عن الدين، وقد جعلَ من فقرهِ إيماناً ومن غنى خصومه كفراً، بل من استمتاعهم بالحياة ومن انتشائهم بالغناء ومن لبسهم ومن شكرهم لبني أمية حين يلغون عنهم الضرائب ومن غير ذلك، مظاهر للكفر وعصيان الخالق.
فقراء المدينة وهم الأغلبية رحبوا بأبي حمزة الخارجي لما رأوا من رغبته في العدالة ومن إلغاء جور بني أمية، لكنهم اكتووا بعد ذلك بسياسته وتدخله في حياتهم وأحكامه الباترة، فثاروا عليه وطردوه وجيشه.

صحيفة اخبار الخليج
6 ديسمبر 2009