إذا كان جمال البناء المفكر الذي أثار بأفكاره جدلاً واسعاً اصطدم بالسائد والموروث اجاب على سؤال” هل ترى في تقديرك ان اسباب تخلف العالم الاسلامي اليوم راجعة إلى دعوات العودة إلى الماضي والخلافة ؟ بان اي دعوة إلى لماضي مرفوضة، مرفوضة بكل المعاني، ضروري ان ينظر الانسان إلى المستقبل، اما ان يعود إلى الماضي فهذا كلام خطأ والا ان يعود إلى بطن امه فإن جابر عصفور الكاتب والمفكر والناقد افرد في كتابه “النقد الادبي والهوية الثقافية” مساحة واسعة تحدث فيها عن الثقافة الوطنية ومخايلة الماضي كان يقول فيها : ان استعادة الماضي في مرحلة التحرر الوطني عملية حتمية تعويضاً عن مرارة الحقبة الاستعمارية وتأكيداً للهوية ودعماً لاحلام الاستقلال في تلك المرحلة، ولكن عملية الاستعادة نفسها وما صاحبها من آليات، وما انطوت عليه من عصابية التعويض فرضت نظرة احادية إلى التاريخ ونسجت من عظمة الماضي ما اصبح صورة للمستقبل الذي اشبه بحركة “الفلك الدوار” او حركة “الدولاب” وهي وهي حركة يتأرجح فيها التاريخ بين نقيضين صعوداً وهبوطاً. وعلى هذا الاساس كان يعتقد ان هذا التصور “الدهر – التاريخ” ينطوي على حتمية ثلاثية الابعاد في دلالته القدرية فهو ينفي دور الارادة الانسانية في تحريك التاريخ ويحيل حركة التاريخ نفسها إلى ما يجاوزها في فضاء مطلق وينتهي مجرى الحركة إلى نوع من التكرار الذي ينفي معنى التقدم. ويمضي عصفور في نقده لهذه الرؤية او هذه الفلسفة قائلاً “عندما تحول ماضي الأنا القومية إلى واحة للعزاء وانتخب منه ما صاغت به المخيلة صورة المستقبل العائد إلى اصله تم تسليط الموجب من الماضي ليمحو السالب منه وغدا التاريخ القومي كله موجب الايجاب المطلق بالقدر الذي غدت فيه القومية منبع الفضائل التي لا يعرفها الاخر والثقافة الوطنية قرينة ايجاب الكمال الذي لا يشوبه النقص ولا يقبل النقد!! وهكذا ظلت الثقافة الوطنية حلماً تحريراً منطوياً على ماضٍ اجمل من الحاضر إلى ان حدثت نكسة وكارثة العام السابع والستين عندها فتحت الاعين على ضرورة مراجعة مكونات هذه الثقافة وعلى رأسها تراث الماضي الذي يتسرب تقليده في الحاضر والذي لابد نقده في ذاته بعيداً عن صورة التخيلية وعن العصاب المتهوس بالاخر في الوقت نفسه وبالتالي لم يكن من قبيل المصادفة ان شهدت حقبة ما بعد ذلك العام الجهد المكثف والخلاق متعدد الابعاد والاتجاهات من عمليات قراءة التراث ونقده تلك العمليات التي اسهم فيها امثال زكي نجيب محمود، طيب تزيني، وادونيس، وحسين مرورة وحسن حنفي ومحمد عابد الجابري وغيرهم عشرات. وبعبارة اخرى ظلت المخيلة التعويضية لازمة من لوازم المشروع القومي إلى الانكسار الذي ابتدأ بعام نكسة حزيران التي حدثت في العام السابع والستين من القرن الماضي وذلك ضمن سياق اشمل من الاستقطاب الدولي الذي كان بين غرب رأسمالي وشرق ماركس. في هذا الاصدار بحث عصفور تشكل مفهوم الثقافة الوطنية وعناصر تكونها وفي هذا الاطار كان يعتقد ان هذا المفهوم احادي البعد مدى الاتجاه في حالات كثيرة من حالات الممارسة الفعلية ولاسيما عند الذين قاموا بادلجته. وفيما يتصل بالمخيلة التعويضية كان يقول انها كانت في دور من ادوارها تبرز البعد القومي في تراث الثقافة الوطنية بوصفه البعد الذي منح العرب خصوصيته في عصر الاستقطاب بين الكتلتين المتصارعتين طول فترة الحرب الباردة وبالتالي كانت هذه المخيلة تحقق هذا الدور بابراز عناصر الاتفاق في ماضي الثقافة الوطنية على حساب عناصر الاختلاف وتعلي من اوجه الشبه مع الماضي على حساب الحاضر ومن القيم الجمعية على القيم الفردية. خلاصة القول .. ان الموقف من الماضي لا يعني رفض الماضي كثقافات وتراث وحضارات ولكن ان يكون هذا الماضي بديلاً عن الحاضر والمستقبل كما تفعل الحركات الاصولية الاسلامية التي تدعو إلى القطيعة مع العصر لاقامة سلطتها الدينية على حساب الدولة المدنية القائمة على سيادة القانون واحترام حقوق الانسان والمساواة فهذه هي اكبر التحديات التي تواجه مشاريع النهضة والحداثة والتقدم.
صجيفة الايام
5 ديسمبر 2009