المنشور

حوار مع العفيف الأخضر (2 – 3)

تعتمد أفكار الأستاذ العفيف الأخضر في مقالته الآنفة الذكر (لماذا إصلاح الإسلام؟)، على التجريد العام وعلى أفكار تنويرية مهمة كذلك، لكنها تنمو داخل ذلك التجريد.
لقد وصلنا إلى تحديد بعض القوى السياسية الفاعلة الأساسية في بُنيةٍ عربيةٍ مركزيةٍ هي البنيةُ المصرية النموذجية لعمليةِ استنتاجٍ تظلُ محصورةً بها، ولا يمكن كذلك تعميمها، من أجل رؤية السببيات الكبرى هنا. وقد رأينا أصحابَ القرار الذين دعاهم العفيف الأخضر لكي يقوموا بتجديد الإسلام وتحديثه.
ورأينا كيف أن الرأسمالية الحكومية المصرية والرأسمالية الدينية المحافظة الممثلة بالاخوان المسلمين، غير قادرتين على تجديد الإسلام، لأن الأولى تتشبثُ بالمقاعدِ السلطويةِ وبإدارةِ المال العام للمواطنين، بلا أمانة، والثانية الرأسمالية المحافظة الدينية التي جاءتْ من أموالٍ أخرى نفطية وبنكية، تظلُ تريد محدوديةً في الوعي الديني لدى المودعين الصغار والعامة التابعة الغارقة في إسلام العبادات، من دون تبصر لما هو أبعد من ذلك، أي لمهمات التغيير في البُنى الاجتماعية المختلفة.
في حين أن القوةَ الثالثةَ وهي الرأسمالية الخاصة فهي أقسامٌ مشتتة، متصارعة، لديها أفكارٌ ليبراليةٌ وتجديدية، ولكنها محدودة الشعبية بسبب عدم اشتغالها فيما يشكلُ الأرزاقَ الواسعةَ لدى الجمهور، أي في الرأسمالِ الصناعي، وبالتالي هي تعجزُ عن إنتاجِ الرأسمال الفكري التجديدي.
أما اليسار فهو أقل قدرة سياسية من إحداث التجديد في الإسلام من الناحية السياسية العامة، لاعتمادهِ على عامةٍ محدودة الوعي ولا تشتغلُ بالتجديد الفكري، على الرغم من مقاربة مثقفي اليسار لتجديد الحياة أكثر من غيرهم وأعمق من بقية القوى. ودور اليسار مهم في تجميع القوى السياسية لمعركة العلمانية وتجديد حال المسلمين ومن أجل الحداثة والديمقراطية، بشرط أن يكون هذا اليسار نظيفاً غير مرتبط بقوى استغلال وفساد!
لكي يحدثَ تجديدٌ للإسلام، أي من أجل إبعاد هذه العادات ومستويات الأفكار التي كرستها القوى المحافظةُ خلال القرون السابقة والزمن الحاضر، لابد من التفاعل الديمقراطي بين القوى السياسية السابقة الذكر، وأن يتم إبعاد هذا المستوى المحافظ وهو الذي شكلتهُ في الواقع قوى استغلال المسلمين، عن الحكم، أي ألا تتكرس تلك القوى كقوى دينية، مهيمنة على النصوص، وأن تتجسد كقوى سياسية مجردة من تلك الملكية المقدسة للنصوص.
القوى الرئيسية لا تريد الابتعاد عن مطلق السلطة ومطلق التحدث باسم الدين. ولا بد كمعركة سياسية أساسية أولى من إحداث هذه النقلة التاريخية! الكراسي الدافقة للمال بين الطبقة الرأسمالية البيروقراطية – الدينية، سواء أكانت كراسي عالية أم كراسي برلمانية أم نقابية فاسدة، هي العقبة أمام تجديد الإسلام وتجديد الأوطان من هذا الجمود!
إن العديد من رجال الدين والتجار ومن المثقفين لو حصلوا على فرص للعيش وافتتاح مصانع أو ورش أو جرائد وغيرها من وسائل العمل، لجددوا رؤاهم واجتهدوا لتطوير الأحكام والأفكار ولكن كيف وهيمنة الدول على الأسواق والمال العام عقبة كبرى دون ذلك؟
من هنا تغدو نضالية اليسار الديمقراطي غير المرتبط بالفساد الحكومي والأهلى على السواء، هي القوة الفاعلة لتحليل أي بناء عربي اجتماعي، فلكل بلد عربي خصائصه ودرجة تطوره وتباين أهدافه السياسية القريبة، ومقاربة مختلف القوى بدرجات اقترابها مع مشروع الحداثة السابق الذكر، ومن دون هذا اليسار الفاعل، النشط، المحلل، فإن كل القوى تدخل في عمليات تجريب وفوضى وتراجع، لا تستطيع أن تستكشف الآفاق السياسية المراد السير فيها.
هذا هو الخيار أما أن يجلس أصحاب القرار لكي يتداوالوا أمر تغيير المجتمع، وإصلاح الدين، فأين يمكن أن يجتمعوا وفي أي فضاء مجرد يحدث هذا الاجتماع؟!
إن بلداً عربياً أو إسلامياً له درجة مقاربة مع الحداثة أكبر من بلد آخر، فتونس أقرب للحداثة من السعودية، ومن غير الممكن توحد المهمات في البلدين، لكن هذا لا يمنع أن كل دولة فيهما تبقى هي القوة المسيطرة كثيراً وكبيراً وأن مشروع الحداثة الديمقراطي النوعي غير موجود في البلدين. وبطبيعة الحال كانت قيادة تونس قد اختارت دولة الرأسمالية الخاصة وأنتج هذا الاختيار تحولات اجتماعية ديمقراطية أكبر بكثير من السعودية، والسعودية اختارت الرأسمالية الحكومية المسنودة بعلاقات بدوية وأبوية محافظة، لكن الرأسمالية الخاصة والقوى الليبرالية موجودةٌ وتنمو وتطالبُ بحريات. مثلما أن تونس لاتزال الدولة مهيمنة ورأسماليتها الحكومية هي المسيطرة.
هذا العرضُ العامُ ينفي الجزئيات المقطوعة عن السياقات، أو أنه يضعُها في أمكنتِها المناسبة، فنحن نثمن حريات تونس الفكرية لكن لا نجعلها مطلقة، وأن البلدين القيمين في تجربتيهما تونس والمغرب، لا يعني إنهما مكتملان في مسألة الحريات الجوهرية، فلاتزال أجهزةُ الدول العميقة تملكُ الكثير وتوجهُ الحياةَ كما تريد.

صحيفة اخبار الخليج
4 ديسمبر 2009