الباحث العفيف الأخضر من العقول النقدية المهمة التي نشطتْ الوعي العربي في عمليات كشف الواقع المتعدد البُنى والأنظمة والتراكيب.
وهو له دائماً قراءاتهُ التحليليةُ العميقة وتبدو الآن متباعدةً ونادرةً ولكنها ثمينة، وكان في دراساتٍ سابقةٍ يغوصُ في تعقيداتِ الهياكل الاجتماعية في عموم الشرق كما فعل في دراسة له في مجلة (قضايا فكرية) قبل سنوات، وقد كنتُ قد تابعتُ أولَ ظهورٍ فكري له في كتابِ (العسف)، عن التعذيب في الجزائر، الذي ظهرَ بعد انقلاب بومدين، فرفقتي معه طويلة!
في آخر مقالة له نشرت في موقع (الحوار المتمدن) وهي بعنوان(لماذا إصلاح الإسلام؟)، نقرأ له طرحاً يدعو لإصلاحِ الإسلام ككل عبر رؤيةٍ عامةٍ مجردة لكنها فيها تفاصيل غنية، ونقتطفُ فقرةً من مقالته رغم طولها لكنها مهمة لعرضِ وجهةِ نظرهِ:
(أمام الإسلام اليوم، أعني صناع القرار المسلمين، خياران: المراوحة في المكان أو الإصلاح. المراوحة في المكان أعطت على مرّ السنين حرباً دائمة مع الذات وحرباً مع العالم وحرباً مع العلم وحرباً مع الحداثة. إصلاح الإسلام يطمح إلى مصالحة الإسلام مع نفسه، ومع العالم الذي يعيش فيه، ومع العلم الذي يحقق اكتشافاً مهماً كل دقيقة بعضها يطرح على الوعي الإسلامي التقليدي أسئلة مُحرجة. ومع الحداثة بما هي مؤسسات سياسية وعلوم وقيم إنسانية كونية أي يسلم بسدادها ذوو العقول السليمة أينما كانوا.
مصالحة الإسلام مع نفسه بوضع حدّ للتكفير سواء تكفير المثقفين أو الفرق الإسلامية الأخرى كالمتصوفة والدروز والعلويين والأحمديين والبهائيين والشيعة…. وبوضع حد للحرب السنية – الشيعية الدائمة التي توشك أن تتحول اليوم إلى سباق تسلح نووي بين إيران وجوارها السني حامل لأخطار الحرب النووية وذلك بقبول الفصل بين الديني والسياسي، مصالحة الإسلام مع العالم تتطلب منه إعادة تعريف عميقة لعلاقته به تُنهي تقسيمه إلى دار إسلام موعودة بالتوسع ودار حرب موعودة بـ”الجهاد إلى قيام الساعة” كما يقول حديث للبخاري يَتَلَقنه المراهقون في دروس التربية الإسلامية في عدة بلدان، مصالحة الإسلام مع العلم تقتضي نسيان الإعجاز العلمي في القرآن وقبول الفصل النهائي بين القرآن والبحث العلمي والإبداع الأدبي والفني).
هذه أفكارٌ مهمةٌ لكنها مطروحة في عرض عام مجرد، رغم تخصصيها الخطاب بالتوجه نحو (صناع القرار)، فصناعُ القرارِ عموماً هم جزءٌ كبيرٌ من المشكلة. وتعبيراتٌ مثل تصالح الإسلام مع نفسه تنقلنا إلى مثاليةٍ غيرِ ماديةٍ تماماً.
التجريدُ والتعميمُ في كلامِ العفيف الأخضر يتركزان في رؤيتهِ تاريخ المسلمين المعاصرين كتاريخٍ عام، ليس فيه بُنى اجتماعيةٍ ذاتِ قوانين، وان تغييرَ حالِ المسلمين يتطلبُ رؤية هذه البُنى، ورؤية كيف تتناقض وتنمو أو تتحطم، وبهذا لابد أن نعرف لماذا كان خطابُ الإمام محمد عبده بهذا الشكل دون ذاك؟ لماذا استطاع محمد عبده أن يكون مجتهداً ولم يستطع الأزهرُ ذلك؟ (لقد خصص العفيفُ عبارةً من مقالته عن محمد عبده).
هذا يتطلبُ رؤيةَ تاريخهِ وتاريخَ البنية الاجتماعية التي جاهد فيها، وكيف كان مثقفاً دينياً مستقلاً بسبب خطاب الأفغاني الذي تبناه وكان خطاباً إسلامياً عاماً مستقلاً، وحيث كان الزعيمان منسلخين من وجهة نظر الأنظمة الشرقية الشديدة المحافظة في ذلك الوقت، ومقاربين للحداثةِ الغربيةِ في بعضِ توجهاتها الديمقراطية التنويرية، لكن هذه الوجهات النظر الإصلاحية ظلت فرديةً وفي سياقٍ ديني تقليدي كذلك.
أما الأزهر فكان تابعاً للقوى التقليدية خاصة المَلكية المصرية المحافظة وقتذاك، وقد ابتعدت القوى الدينيةُ المصريةُ عن أفكارِ المُجاهَدين الشيخين، في حين إن هذه الأفكارَ انتقلتْ وتم تبنيها لدى الوفد، وفي سياقٍ فكري مختلف كذلك، فكرست القوى التقليدية المتعددةُ من القصر الملكي والاخوان المسلمين والسيطرة البريطانية، رغم التباين بينها كذلك، نفسَها ضد الوفد وتطوره، أي ضد انتصار خيار الرأسمالية الخاصة المستقلة الديمقراطية.
هذه عينةٌ صغيرةٌ من التاريخ أقتطفُها لقراءةِ السببيات العامة وتعقيد وتركيب أي مرحلة، حيث واجهتْ القوى التقليدية نموَ الرأسمالية الخاصة المجسدة بالوفد، ثم ظهرتْ الرأسماليةُ الحكوميةُ العسكرية المجسدة بثورةِ يوليو لكي تقومَ بإصلاحٍ اقتصادي كبير، لكن الرأسمالية الحكومية ذات الشكل الدكتاتوري تنتهي بكوارث عادة. وتغدو المشكلاتُ الأكثر تعقيداً في مسائل الديمقراطية وقراءة التراث وتغيير الريف وقضايا الفساد ضرائبَ كبيرةً يجب أن تدفعها القوى الاجتماعية في مرحلةٍ تالية.
من هم صناعُ القرارِ في مصر حالياً ؟! وهل يمكن أن يتفقوا على حلولٍ مشتركة؟
إن صناعَ القرار بشكل كبير هم المسيطرون على الرأسمالية الحكومية كما جاءتهم من الفتراتِ السابقة وكما هيمنوا عليها وأضافوا تغييرات و(خصخصة) زادت الاقتصادَ فساداً وضياعاً، وهم يرفضون الانزياحَ عنها وعن فيوضِها المالية خاصةً!
وهناك الاخوان المسلمون كقوى رأسمالية – محافظة ذات جذور زراعية، ومنذ البداية رفضوا الإرث التنويري الديمقراطي من المجاهَدين الكبيرين السالفي الذكر، ومن الوفد كقوةٍ وطنية، ولكنهم في صراعاتهم الراهنة، وغياب الدكتاتورية العسكرية التي شوهت تاريخهم، أخذوا يبحثون عن أشياء جديدة ويجتهدون، لكن دون المقاربة مع الحداثة الغربية الديمقراطية التي يذوبونها بآليةٍ في الاستعمار دون تفريق عميق ودون قراءات مركبة بين الحداثة والاستعمار.
إن تغييبَ الإنجازات الديمقراطية لدى الوفد والرواد يتحدُ مع تغييبِ الإنجازات الديمقراطية لدى الغرب ولدى الثورة الإسلامية التأسيسية كذلك!
إن الترابط مع الاستبداديات الأبوية خاصة داخل الأسرة، وفي الثقافة، وغيابهم عن رأس المال الصناعي، وهيمنتهم على عامةٍ أمية غيرِ قادرةٍ على التطور السياسي، تجعل قدراتهم كمشاركين في المسئوليةِ النهضوية الراهنة تتجهُ لعدمِ تطوير الأحكام الشرعية والأفكار السياسية باتجاه العقلانية والمساواة والأنسنة.
صحيفة اخبار الخليج
3 ديسمبر 2009