كان الأدب أقرب لإيجاد انعطاف كبير في الثقافة البحرينية من خلال الصحافة التي ظهرتْ في فترة أوائل الستينيات والسبعينيات، عبر هذا الجمع المرهف بين تطوير الأدوات التعبيرية والانتماء لهموم الناس.
ولهذا فإن الشعرَ كان رأسُ الحربةِ في عمليةِ هذا النمو نظراً لكثافتهِ وتعبيريتهِ المنبرية وحرارة التصاقه بالحياة، فيما جاءتْ القصة القصيرة والرواية بشكل أبطأ ومن خلال زحف واسع لتحليلِ مظاهر الحياة الاجتماعية واستيعابِها وتلمسِ جذورها، وكذلك فعلت الفنون لكن من خلال رصد الظواهر المادية والطبيعية في أغلب الأحيان. فكان الأدباءُ على اتصالٍ بذاتِ الجذور الكفاحية للموجة الثقافية الخمسينية السابقة، ومن هنا فاضتْ كتاباتُهم من على سطور الصحافة، التي لم تتسعْ لمثل هذه المضامين النقدية والسياسية الجارفة، كذلك فإنها اتسمتْ بغموضٍ تعبيري نظراً لمحاولاتِها التوغل في مناطق تحليلية نفسية وفكرية واجتماعية أبعد من إمكانات القراء المحدودين، ولربطها الثقافي الوطني بالظاهرات القومية العربية والإنسانية وخاصة الحداثة الغربية المتطورة.
في هذا السياق الأدبي، وهو قمةُ الوعي الثقافي البحريني في هذه المرحلة، ظهر تياران: تجريبي يبحث عن تطوير الأدوات التعبيرية بدرجة أساسية، وواقعي يكرسُ عمليةَ تحليل الحياة، كان التياران يعبران عن معركة الماضي بين العريّض والآخرين لكن في مستوى أكثر تطوراً، فالتوجه للأدوات التعبيرية بما يرافقها من تجريب خلاق في بعض الأحيان وغامض في أحيان أخرى، ومن آراء عن تحطيم الأنواع، كان يفصل الأدب الذي نشأ في حضن المعركة لتغيير الواقع التابع، عن واقعه البحريني وعن القراء، ويوجد للمبدع استقلالاً غامضاً، يجمع فيه بين الكتابة والأهداف المستقلة عن القضايا العامة، أي يغدو هو بؤرة ذاتية وينسجُ حول نفسهِ دوائرَ من العزلة والمصلحة الخاصة، ويغدو التجريب في بعض الأحيان انسحاباً من معارك الحياة ومن دفع الثمن في مواجهةِ كشف الأخطاء في المؤسسات العامة ومن نقص الحريات. وقد نشأتْ هذه العمليةُ التجريبيةُ الانسحابية المنفعية في القصة والشعر والنقد والمسرح على حدٍ سواء.
إن التجريبية كما لوحظت في بعض النتاجات الشعرية والقصصية تتوقف عن التجريب نفسه، لأن التجريب لابد أن يعتمد كذلك على التحليل، تحليل الحياة ومشكلاتها، وتصوير الشخوص والغرف من ثراء الواقع المتحول باستمرار، وهذا يوجد الترابط بين الكاتب والقضايا والمعارك الاجتماعية التي تثار في البلد، لكن تجريبية غامضة وغير مرتبطة بتحليلات معمقة ومواقف تقود إلى بعثرة الوعي الفني وذوبان القصة والشعر في الدخان!
فالمسرح – على سبيل المثال – الذي كان ينمو بأشكال واقعية نقدية متدرجة ذات حضور مهم ظهر فيه ما يُسمى التجريب ليقفز عن هذه العملية إلى أشكال فيها بعض التجارب القليلة الجيدة التي جمعت بين التجريب وكشف الواقع، ثم غرقت في مزايدة فنية تعبيرية وفذلكات، ومن ثم حدثَ انطفاءٌ لهذا المسرح الواقعي النضالي عموماً، فحتى عملية التجريب هنا لم تتمْ بأشكالٍ أمينةٍ على مبادئ التجريب نفسه لكي تبحث عن الاتصال مع الجمهور والوصول لمعاني الحياة العميقة.
ولكن الواقعية تغدو بخلاف ذلك، مسؤولة عن تحليل الحياة، وكشف ما يدور في الواقع وبأشكال تعبيرية جمالية، وقد تحقق شيءٌ منها، ولكن تناميها في الأجيال الجديدة كانت عملية غير ممكنة.
إن الانقطاع بين ازدهار الثقافة (الوطنية الديمقراطية) وثقافة الضياع والغربة الدينية فيما بعد هو تعبير عن نشوء بُنية اجتماعية جديدة، بُنية مختلفة عولمية تابعة.
مثلتْ الواقعيةُ حلمَ الرواد في الأربعينيات والخمسينيات بوجودِ ثقافةٍ تجمعُ بين نقد الواقع والجماليات المعبرة، مثلما مثلت القوى الديمقراطية والتقدمية استكمال مشوار الوطنيين الأوائل وتطويراً لآرائهم التنويرية، وهذا التراكم على صعيدي السياسة والثقافة، لم يكن سهلاً، وُوجه بعقبات وعسف، حتى حدث تآكلٌ له، مما منع من نموه في كلا الجانبين خلال العقود التالية.
إن القيام بالتحليلات المعمقة في مختلف أشكال الفنون والآداب والفكر كان يعني نقد الحياة، ومظاهرها المختلفة من عمل وبطالة وقهر وغيرها، وهو في الأدب والفن يتخذ مظاهر غير الكلمات المباشرة، فهو يتقمصُ الشخصيات المؤثرة والأحداث المعبرة ولهذا يكونُ توغله في الناس أكثر عمقاً وبقاءً. ولهذا كلما تجاوز الفن المنشورات التحريضية كان أكثر خطورة. لكن المثقف تنشأ لديه مصالح ذاتية، وهو لا يريد أن يتخذ موقفاً عميقاً مثل هذا، ويلجأ للتجريب والغموض ويصر على بقائه كمبدع، ويرغب في الشهرة والمال كذلك، مثل المثقف الديني الذي سيكون (بطل) المرحلة التجريبية التالية(الراهنة).
لكن المرحلة الثقافية الوطنية اليسارية في الثقافة البحرينية مثلت ولادة الأنواع الأدبية خاصة والفنية والفكرية، ولم تستطع أن تصل بعمقها للأجيال الجديدة بسبب قطع قنوات الاتصال والتراكم بين الأجيال.
صحيفة اخبار الخليج
30 نوفمبر 2009