يحدد المكان الجغرافي والطبوغرافي سياسيا طبيعة الصراع بين حكومة باكستان وجيشها الجرار لمنطقة وزيرستان، والمدعومة دعما كاملا من الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الدائمين ضد حركة طالبان اللتين تبدوان كجسد عقائدي واحد وراسين تنظيميين مختلفين، لأسباب تكتيكية واضحة أيضا، فحركة طالبان باكستان تعمل في تربة بلادها وحركة طالبان الأفغانية تعمل في تربتها، وتعمل الحركتان شكلا والواحدة مضمونا، ضد حكومة بلادهما باعتبار أن الحكومتين ضالعتان في تحالفهما مع الولايات المتحدة، فطالبان بشقيها الباكستاني والأفغاني قائمتان على أسس مناهضة للكفرة الذين يريدون لباكستان وأفغانستان مجتمعا مختلفا عن منظور المشروع المزمع إقامته في البلدين، فحلم إقامة الإمارة الإسلامية بكل تفاصيلها الشرعية أمر قائم لدى الحركتين التوأم، واللتين في الأساس كانت مولودة ومتناسخة من روح وجسد حركة طالبان الأفغانية / الأم ومن بذرة وتجربة وتاريخ أفغانستان القديم في حقبة الحرب ضد جيش الاتحاد السوفيتي. جميعنا يعرف تسلسل المسألة العسكرية والسياسية منذ خروج الاتحاد السوفيتي عام1985 وتحول أمراء الحرب إلى اقتتال داخلي لمحاولة ملء فراغ الحكومة الأفغانية السابقة تحت حماية الجيش السوفيتي، وفي خضم تلك الفترة 1985-1990 ستصعد المسرح السياسي لأفغانستان زمرة من طلبة المدارس الدينية والذين أطلقوا على أنفسهم حركة طالبان، ورفعوا شعار وراية تطهير أفغانستان من تلك الجماعات المتقاتلة من اجل كعكة البلاد وتحولها إلى ساحة حرب أهلية ضارية . لم تدم طويلا تلك الفترة الوردية لحركة طالبان في العالم العربي والإسلامي ولا في البيت الأبيض، فمثل ما انتهى شهر عسل مرحلة الاتحاد السوفيتي، فان البيت الأبيض والعالم الغربي في حقبة العولمة، سيلتفت للعدو الجديد. لم يكن بين أفغانستان وباكستان مسافة سياسية حينها ولا عسكرية فالطرفان تعاونا وتحالفا قدر المستطاع، وفتحوا بوابة البلدين للجماعات المجاهدة حتى صارت لهم أفغانستان وباكستان «الفردوس المفقود» كما يحلو للشاعر الانجليزي اليوت تسميتها. هذا الفردوس لن تطول الإقامة به برخاء وحرية كاملة، فقد ورط تنظيم القاعدة البلدين في معركة تفوق طاقته، وأراد أن يشعل العالم «بثورة جديدة عالمية الطابع» على كل مواقع الامبريالية الأمريكية. هكذا حلقت طائرات الناتو والقوات الأمريكية من قواعد مختلفة في الجوار الأفغاني، بل وطارت من مسافات بعيدة لتدك كل موقع ومعقل لحركة طالبان كرد على الهجوم المباشر على مركز التجارة العالمي والبنتاغون. لحظتها دخل العالم حربا خفية ومعلنة وواضحة على شبح تم تضخيمه كصورة للإرهاب فاختلطت أوراقه، فانشغل كل مركز بحث عالمي بتلك الظاهرة الجديدة، الإرهاب العالمي «القاعدة» وتنظيمات إسلامية متنوعة في الأسماء «فانتعشت تلك الحرب» غير أن عين وقلب البيت الأبيض مسكونان في بغداد لخوفهما من العراق اكبر من خوفهما من الجماعات الإسلامية. نشطت في 2000 ـ 2009 محطات الفضاء في بث الأشرطة، واستمعنا بين الحين والآخر أصوات الانفجارات، فيما بدا الجيش الأمريكي يدخل معقل صدام وكأنه في نزهة حربية لم يتوقعها بتلك السهولة. سقطت تفاحة بغداد في الحضن الأمريكي، وتم إعادة بناء دولة مفككة تركت تنزف بجراحها، ولكن البيت الأبيض لم ينس بقعة مهمة اسمها وزيرستان، بحثا عن طرائد مهمة بعد أن اصطاد أهمها ووضعهم في معتقلات متعددة كما هو سجن غوانتانامو الشهير. كانت تنتظر الولايات المتحدة حسما عسكريا سريعا ومكثفا على فلول جماعات هربت من جحيم جبال تورا بورا، وكاد دخان الانفجارات وصوتها والمواد الكيماوية يدخلها في جنون الصدمة. بعد الطوفان الأمريكي أوت تلك الفلول إلى الجبال ملاذا فالتقت الجنسيات الإسلامية المتنوعة بعد أن اخفت كل حركات الجماعات الإسلامية في أسيا الوسطى فلم تنجح لا في أوزبكستان ولا طاجيكستان ولا أذربيجان ولا الجمهوريات الصغيرة، فما كان من المحبطين المنهزمين إلا الهروب نحو مناطق جهادية قريبة، فكان حضن وزير ستان مفتوحا وصارت الحدود الجبلية ملعبا لمن يريد أن يتدرب ويندس نحو المدن الداخلية والخارجية لكي يتمكن من القيام بتفجيراته. والنغمة لا تزال متواصلة. كيف لم تستطع دولة كباكستان بجيشها المدعوم ماليا وتقنيا من الولايات المتحدة بفشلها في اصطياد رؤوس مطلوبة من قيادة القاعدة أو طالبان بشقيه الباكستاني والأفغاني إن لم تكن هناك خزانات سرية ومستودعات مضمونة تؤمن لمثل أولئك الهاربين فردوسا مؤقتا. وكلما شهدت أفغانستان ضربات من «طالبانها» سمعنا باكستان تضطرب ويهددها طالبانها أيضا والذين يناطحون العسكر بشتى السبل وبإمكانيات عسكرية وبشرية محدودة قياسا لمن يواجهونهم في العدد والعتاد. قد تجدي الان ومؤقتا عملية «التطهير العسكري» لوزير ستان لكي تبدأ عملية المناورة السياسية ومن أهمها عزل المقاتلين الأجانب عن شعب وقبائل باكستان وعزل حركة طالبان الباكستانية عن بيئتها الثقافية والسياسية والقبلية وإظهارهم على أنهم ضد الدين والناس قبل أن يكونوا ضد الحكومة نفسها فما تحدثه من انفجارات عشوائية تصيب الأبرياء تترك أسئلة وحيرة لدى الشارع الباكستاني والأفغاني !!. إن لم تكن باكستان في حرب أهلية كاملة فإنها تؤسس لمشروع تلك الحرب إن لم تحسم بسرعة العملية العسكرية في وزير ستان المعركة المنتظرة. وكلما قدمت أفغانستان نفسها كمشروع ديمقراطي وتنموي فان انعكاساته على وزير ستان ايجابية ولكن ورطة أفغانستان وحكومتها الفساد وتغلغل أمراء الحرب في كل مكان ومن أهمها وزيرستان الحاضن لكل هؤلاء الهاربين من جحيم النار والاعتقال بحثا عن الفردوس الموهوم. جبهتان على الضفة الأفغانية والباكستانية يحاربهما العالم الحر بقيادة الولايات المتحدة مانحة القوات المحلية بركتها ودعمها وصلواتها الأبدية. وإذا ما كان تنين طالبان يتمدد في الجغرافيا الأفغانية والباكستانية منطلقا من محطة أساسية هي وزير ستان فان الحرب والمواجهات العسكرية فيها هي المدخل الجوهري لإعادة الاستقرار النسبي في باكستان وأفغانستان المنتظرة قدرها الجديد في إعادة جولة الانتخابات الرئاسية والتي كانت رسالتها مهمة لمن يهمه الأمر عن إن العالم الحر لن يسمح بهذا النوع من التجاوزات المكشوفة للفساد والمعادي للديمقراطية والشفافية حتى وان كانت في تربة حساسة ومعقدة للغاية .
صحيفة الايام
24 نوفمبر 2009