في الذكرى الأولى لرحيل الشاعر والأديب والمثقف الفلسطيني الكبير محمود درويش تم التنقيب عن بعض أعماله النثرية والشعرية والسياسية المجهولة أو التي كتبت منذ سنوات طويلة ولفها النسيان بعضها تجرى إعادة نشره في صحف عربية كالحياة وبعضها الآخر يتم تجميعه وتبويبه تمهيدا لاصداره في كتاب، والحق ان قامة أدبية إبداعية وثقافية بحجم درويش يستحق ان تتبنى جهة نشر عربية أو أكثر مشروعا كبيرا لإعادة طبع ونشر أعماله الكاملة على اختلاف أنواعها منذ ان بدأ الكتابة شابا يافعا حتى رحيله الفاجع، وجزء كبير من هذه الأعمال، كما نعلم، معروف لمثقفي”عرب 48″ حينما كانت كتاباتهم المنشورة في الداخل معزولة تماماً عن الرأي العام العربي وعلى الأخص خلال عقد ستينيات القرن الماضي، وهي بالضبط السنوات التي بزغ خلالها نجم درويش عربيا من خلال إعادة نشر بعض أعماله في بعض الصحف اللبنانية حتى أفرط مثقفون عرب في تقريظها كنموذج مما كان يعرف بـ “الأدب المقاوم” في الداخل فكانت صيحته المشهورة خجلاً من ذلك التقريظ “انقذونا من هذا الحب القاسي”، ومعظم هذه الأعمال أو كلها كانت تنشر في صحافة الحزب الشيوعي الإسرائيلي كمجلة “الجديد” و”الاتحاد” قبل هجرته الى المنفى عام 1970، وتشير الكاتبة ديمة الشكر إلى أنها صدرت في كتاب مستقل عن دار الهدى بمدينة الناصرة ولا يعرف إذا ما سيعرف الكتاب طريقه الى سوق الكتاب العربي في ظل المقاطعة أو لعدم وجود مشاريع للطبع المشترك بين دور نشر عربية في أراضي 48 وبين دور نشر ببعض البلدان العربية.
أما بعض أعماله الأخرى المشتتة التي لم يعد نشرها فهي تلك التي كتبها في المنافي التي تشتت بينها بدءا من بيروت ومرورا بفترة قصيرة في تونس وليس انتهاء بإقامته في فرنسا ثم عودته الى الضفة الغربية بعد اتفاقية أوسلو عام .1993
ومن بواكير كتاباته التي لفتت نظري وأعيد نشرها مقال نشرته مجلة “الجديد” تحت عنوان “مات مارون عبود …” وفيه يرثي بتأثر وجداني وعاطفة حارة متأججة رحيل الكاتب والمثقف اللبناني الكبير.
وأتذكر كانت أول مرة قرأت عن هذه الشخصية اللبنانية الفذة ما كتبه عنه الناقد اللبناني محمد دكروب في كتابه الموسوم “شخصيات في الثقافة العربية” حيث كتب كما أتذكر في الفصل الخاص به عما يتميز به عبود من حس أدبي مرهف في الكتابة عن الفلاحين وتراثهم الشعبي الذي يعبرون به عن مظلومياتهم وعن وطنيته الصادقة وكرهه الجارف لآفة الطائفية.
وفي هذا الصدد أتذكر ان دكروب وهو يقدمه في هذا الفصل من الكتاب لفت نظر القارئ الى إمعانه في تسمية ابنه الأكبر “محمد” تحديا منه للتقسيمات والانقسامات الطائفية في تبني الأسماء العربية.
وهذا ما أشار إليه درويش في مقاله أيضا “ومارون عبود هو الذي سمى ابنه محمداً، ومهما تكن أسباب التسمية، إلا أنها تظل عنوانا إنسانيا كبيرا لأخوة الطوائف واحتقارا جميلا للتمييز بين أديان الشعب الواحد الصغير…”. وبالفعل حينما رجعت الى كتاب دكروب وجدته قد أورد هذه الملاحظة في هامش الصفحة الأولى من الفصل المخصص عن عبود تحت عنوان “ملامح صورة مارون عبود.. الفلاح راوي الريف.. ديمقراطي لبناني عربي حتى العظم”.
أما ما أورده في الهامش فكان على إثر تكنيته في متن الصفحة الأولى بـ “أبومحمد” وفي الهامش يكشف دكروب النقاب عن سر هذه الكنية قائلاً “أطلق مارون عبود على ابنه الكبير محمد تحديا منه للنزوع الطائفي” وينقل دكروب في الهامش نفسه ما قاله عبود نفسه في أسباب تسمية ابنه محمداً “… ولأن لتسمية النبي محمد العربي مقاما ساميا في نفسي، وأحبه حبا جما، وأعجب بشخصيته الفذة.. ولأنني كرهت اسم ابني طائفيا كاسمي، فأريت أن أمزج الاثنين …”.
أما من جملة ما عبر عنه محمود درويش في رثائه لعبود غداة وفاته في أوائل الستينيات فيوصف ما خلفه من تراث عظيم هو عبارة عن تراث الشعب اللبناني “وسفيره الأدبي عند باقي الشعوب، وبعبارة فنية نقول إنه فولكلوره، ان الطابع العام المميز لقصصه ينحدر من أعماق القرية اللبنانية، والفلاح اللبناني البسيط الأصيل الذي يواجه الحياة مهما كانت ألوانها بالبسمة والمرح والأغنية والكرامة، ولا ينسى مارون عبود ان يسجل كل لفتة من العادات القروية.. النزاع الخالد الذي لا ينتهي بين الحماة والكنة.. عبودية الحب الخالد، والرضوخ لما يفرضه رب البيت على العروس التي يزوجها لمن يشاء هو.. ثم ــ وفوق كل شيء ــ علاقة الفلاح الالهية بأرضه والنشاط الذي لا يكل ليحصد الرغيف من الأرض …”.
وثمة مقال آخر جميل نشره الشاعر درويش في مجلة “اليوم السابع” في ثمانينيات القرن الماضي عن الشاعر الأسباني لوركا الذي قتلته قوات فرانكو الفاشية وقد جاء توقيت نشره تقريبا في منتصف المسافة الزمنية بين كتاباته الأولى في داخل أراضي 1948 وبين كتاباته الأخيرة الأكثر نضجاً في الأسلوب والأفكار التي لئن صح التقدير ميزت كتاباته منذ مطلع التسعينيات حتى وفاته وسنتناول في وقفة قادمة هذا المقال.
صحيفة اخبار الخليج
22 نوفمبر 2009