ساد هرج ومرج في أوساط النخب العربية، السيادية الحاكمة والإعلامية المتعاطفة مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما وتوجهاته العالمية - خصوصاً منها الشرق أوسطية - المُعَوِّلة على وعوده ما قبل وما بعد انتخابه رئيساً للولايات المتحدة، جراء ارتداد أوباما وأركان إداراته عن وعودهما وإعادة اصطفافهما خلف ‘الوكيل’ الإسرائيلي.
إذ يبدو أن أوباما خيَّب آمالهم وأفسد رهاناتهم على قدرته في تحقيق ما كان وعدهم به من اختراق في جدار الموقف المتعنت الإسرائيلي الرافض لإحقاق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة على أراضيه المغتصبة وفقاً لما قررته، على أقل تقدير، قرارات الشرعية الدولية الصادرة عن مجلس الأمن الدولي.
فلقد ‘ابتلع’ الرئيس أوباما، في سرعة البرق التي يحسد عليها، كلماته الطنانة ووعوده المعسولة بإلزام قادة إسرائيل بتجميد الاستيطان كمنطلق لاستئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية المتوقفة والرامية - بحسب الإعلانات الأمريكية الممجوجة - لتطبيق ‘خارطة الطريق’ المفضية زعماً لإقامة دولة فلسطينية مستقلة.
فبعد أن كانت ‘الملاحظات الدبلوماسية’ الأمريكية الناعمة، والناعسة أيضاً، تتوسل إسرائيل للموافقة على تعليق حركة البناء الاستيطاني ولو لمدة عام واحد فقط، إذا برئيسة الدبلوماسية الأمريكية هيلاري كلينتون توجه نداءاتها للفلسطينيين والعرب بأن يستأنفوا المفاوضات مع إسرائيل دون شروط مسبقة وذلك نزولاً عند المشيئة الإسرائيلية، وتقديم عربونات ‘سلام’ مجانية في صورة ما أسمته ‘خطوات بناء الثقة’ أو حوافز تشجيعية لإسرائيل، وهي تقصد بطبيعة الحال التطبيع الاقتصادي خصوصاً في مجال النقل والمواصلات والاتصالات.
فكان هذا الموقف، إضافة إلى موقف أوباما الذي أظهره خلال اللقاء الثلاثي الذي جمعه مع محمود عباس وبنيامين نتنياهو في نيويورك على هامش الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي والذي تراجع خلاله عن التزاماته التي كان أعلنها بشأن الاستيطان، كان بمثابة صعقة كهربائية داهمة لم يستطع عمرو موسى كتمان غيظه من هذا ‘الانقلاب’ الصاعق في موقف الإدارة الأمريكية فطفح يعبر عن استياء وزراء الخارجية العرب وانزعاجهم من هذا الخذلان الأمريكي المشين.
حتى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الذي يمثل عنوان مرحلة المساومات (المسماة مفاوضات) العربية الأمريكية الإسرائيلية، لم يحتمل هول صدمة تحول أوباما من الضغط على الإسرائيلي لتجميد الاستيطان إلى الضغط على الفلسطيني للقبول بالعودة إلى دوامة المفاوضات، فلم يتمالك نفسه من شدة غصة الخذلان، فانتهز أول مناسبة للإعلان عن عدم ترشحه للانتخابات الرئاسية الفلسطينية التي كانت السلطة الفلسطينية في رام الله قد قررت إجراءها في يناير القادم.
ثم جاء اعتراف كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات يوم الحادي عشر من نوفمبر الجاري بفشل 18 عاماً من المفاوضات مع إسرائيل وإعلانه عن تكشف قناعة لدى الرئيس الفلسطيني محمود عباس باستحالة إقامة دولة فلسطينية في عهد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، ليعكس حقيقة الحالة اليائسة التي استبدت فجأة بقيادة السلطة الفلسطينية في رام الله.
المثير أن تهديد أبومازن بعدم الترشح لانتخابات الرئاسة الفلسطينية المقبلة لم يستدعِ ردات فعل لا من واشنطن أو تل أبيب ولا من العواصم العربية رغم ما ينطوي عليه الفراغ السياسي الذي ستتركه مثل هذه الخطوة على الاستقرار الهش في المنطقة السريعة الاشتعال كما تدل الخبرة التاريخية. فباستثناء مشاعر الشفقة التي تلفظ بها رئيس الدولة العبرية شيمون بيريز خلال احتفال إحياء ذكرى اغتيال إسحاق رابين ومفادها نصاً ‘إن الجميع جرحه، نحن والأمريكيون، بل لدي شعور بأن الجميع ألقوا الحجارة عليه من دون مبرر وهذا ليس بالأمر البسيط’، وتعليق وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون الذي أشارت فيه إلى أنها ‘تتطلع للعمل معه بأية صفة’، أي أن عدم ترشحه أو استقالته لا يعنيان شيئاً لواشنطن - باستثناء هذين التعليقين الشامتين لم نر تعليقات ذات بال للصحف الأمريكية أو الأوروبية الكبرى على هذا المستجد الموجه مباشرة لدعاوى ووعود الرئيس أوباما المنمقة للعرب والمسلمين والتي تكشَّف زيفها وبطلانها سريعاً فذهبت كغثاء السيل.
وزراء الخارجية العرب الأعضاء في لجنة مبادرة السلام العربية الذين اجتمعوا في القاهرة الخميس 13 نوفمبر الجاري في القاهرة، لم يجتمعوا لغرض تعضيد موقف محمود عباس الاحتجاجي على ما اعتبره ‘محاباة واشنطن لإسرائيل’ بالتلويح - على الأقل - بإحالة مبادرة السلام العربية، المرفوضة أصلاً من إسرائيل، إلى صدارة جدول أعمال القمة العربية المقبلة توطئة لسحبها أو تجميدها (على الأقل أيضاً)، وإنما اجتمعوا لتدارك الموقف الناشئ من تهديد محمود عباس بخلق فراغ سياسي (سوف يكون مفتوحاً بطبيعة الحال على كل الاحتمالات) ومحاولة ثنيه عن قراره.
طبعاً تهديد أبومازن بعدم الترشح لانتخابات الرئاسة، فضلاً عما سُرب، قصداً، من أخبار عن نيته الاستقالة من منصبه ومعه كامل طاقم الحكومة الفلسطينية برئاسة سلام فياض، هو في النهاية مقامرة عنترية قد تخرج منها حركة فتح، في حال نُفذ التهديد على الأرض، صفر اليدين، لأنه قد يدفع بميليشيات الفصائل الفلسطينية الأخرى، وتحديداً حماس، للتحرك سريعاً لملء هذا الفراغ.
ولعل هذا بالذات ما يثير ظلال الشك حول مدى جدية ذلكم التهديد وأرجحية أن يكون تكتيكاً سياسياً وحسب، استُخدم اضطراراً، ضمن سباق الماراثون التفاوضي اللاهث، كورقة ضغط على الطرف الأمريكي بعدما تراجع عن موقفه السابق المشترِط تجميداً للاستيطان قبل استئناف المفاوضات، وعلى بعض الأطراف العربية التي وجدت قيادة السلطة الفلسطينية أنها مالت لتقبل هذا الموقف الأمريكي المتراجِع.
وقد يكون هذا التفسير المعقول جداً وراء ردات الفعل الأمريكية والعربية الباردة على تلويحات أبومازن بالانسحاب من الحياة السياسية الفلسطينية لخلق أزمة في صفوف فريق الاعتدال العربي.
وإذا ما صح مثل هذا التحليل - وهو كذلك على الأرجح - فإنه يرينا حجم الأزمة التي أدخلت قيادة حركة فتح، أكبر فصيل كفاحي في التاريخ النضالي للعشب الفلسطيني، ألا وهو حركة التحرير الوطني الفلسطيني ‘فتح’، في دوامتها والتي لم تسفر عن أي شيء بعد ثمانية عشر عاماً من التفاوض الصوري وفقاً لاعتراف كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات.
صحيفة الوطن
21 نوفمبر 2009