جاء العدد الجديد من مجلة الدراسات الاستراتيجية (خريف 2009) التي يصدرها مركز البحرين للدراسات والبحوث أكثر دسامة وتنوعاً مقارنة بالعدد السابق (عدد صيف 2009)، فقد بلغ حجمه 320 صفحة، هذا بخلاف عدد صفحات القسم المخصصة للدراسات المترجمة الى اللغة الإنجليزية التي تبلغ 94 صفحة. أما من حيث ثراء العدد تنوعاً فيمكن تلمسه من عناوين موضوعات العدد وتنوع الباحثين وقد جاءت على النحو التالي:
في باب الدراسات: جدلية السيادة والقانون.. لعمر الحضرمي، أجيال العراق الجديدة بين أولوية الأمن وتداعيات التنمية الإنسانية.. لأحمد شكارة، الشراكة المجتمعية في إطار استراتيجية خليجية موحدة.. لأحمد سالم، تحليل الأوضاع الاستراتيجية الخليجية.. لموسى القلاب.
في باب التحليلات السياسية: عدم الانحياز.. لرخا حسن، العلاقات الأمريكية الروسية.. لرضي السمّاك، المسار التاريخي للرأسمالية.. لرابح لوينسي، تشريعات مكافحة الفساد في الخليج.. لعبدالنبي العكري.
في باب الكتب والمؤتمرات: الدبلوماسية بين العالم.. لعبدالمحسن المارك (عرض نعمان جلال)، الخليج والأمم الآسيوية.. لعبدالله المدني (عرض نعمان جلال)، التنمية السياسية في المجالس الرمضانية.. لمعهد التنمية السياسية (عرض حسام سالم)، السياسة الخارجية الأمريكية.. لهادي قبيسي (عرض عمرو عبدالعاطي)، أزمة الفكر والهوية العربية.. لجورج قرم (عرض ميساء الذوادي).
ومن أهم دراسات العدد التي تضفي عليه سمة التنوع، سواء من حيث مادة الموضوع أم من حيث جنسية الباحث، دراسة لأحد الباحثين من الشقيقة الجزائر ألا هو الدكتور رابح لوينسي (الاستاذ بجامعة وهران) تحت عنوان “المسار التاريخي للرأسمالية وعلاقته بالتقدم الغربي”، وتتناول مسار صعود الرأسمالية منذ بداياتها قبل نحو خمسة قرون ومرورا بانهيار غريمتها الاشتراكية ممثلة في أنظمتها الشمولية في أواخر ثمانينيات القرن الماضي وانتهاء بالأزمة الاقتصادية الحالية التي تشهدها الرأسمالية نفسها.
وفي هذه الدراسة.. يأخذنا معدها في رحلة تاريخية بدءا من مقدمات ظهور النظام الرأسمالي، ومروراً بالعوامل التي ساعدت على تطوره في أوروبا تحديداً، وانتهاء بتحليله للآليات التي ابتكرها النظام الرأسمالي ومكنته من الاستمرار والتوسع. ولعل هذا القسم الأخير من الدراسة هو أكثر أقسام الدراسة تميزاً بالتحليل مقارنة بالقسمين الأوليين اللذين غلب عليهما الطابع السردي الاقتباسي أكثر من الطابع التحليلي المعمق بالرغم من أنهما شغلا أكثر من نصف حجم الدراسة.
وفي سياق هذه الدراسة يطرح الباحث لوينسي ملاحظة على درجة من الأهمية ويعد تحليل أبعادها وحده الكفيل بتفسير وهدة التخلف والارتداد الحضاري التي سقط فيها العرب منذ قرون مقارنة بخروج الغرب منها خروجا حضاريا صاروخيا، ان جاز التعبير، ومفاد هذه الملاحظة أنه في الوقت الذي نما فيه نوع من الرأسمالية التجارية في العالم الإسلامي، على حد تعبير الباحث، فإنها عجزت عن ان تتحول الى رأسمالية صناعية، في المقابل تمكنت الرأسمالية التجارية الأوروبية من التحول الى رأسمالية صناعية حسبما أوضح الباحث ذلك في موضع آخر من دراسته ذاتها.
لكن الباحث للأسف لا يتناول – ولو بإشارات عابرة شديدة التركيز – أسباب فشل العرب في توليد طبقة رأسمالية صناعية على أراضيهم ويقرر ارجاء ذلك الى دراسة أخرى. وفي تقديرنا أنه اذا ما أمكنه إعداد دراسة تحليلية معمقة تاريخيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا حول هذا الموضوع تحديدا فستكون من أهم الدراسات التي تفسر علميا أسباب ارتداد العرب حضاريا في مقابل صعود الغرب سريعا، وإن كان في تقديرنا أن دراسة من هذا القبيل الأجدى أن تضطلع بها مجموعة باحثين كبار ذوي تخصصات مختلفة في المجالات المذكورة لتفسير ظاهرة عدم ولادة طبقة رأسمالية صناعية من رحم الطبقة التجارية التقليدية السائدة خلال الهزيع الأخير من الحضارة العربية ــ الإسلامية.
أما الآراء والاستنتاجات المهمة الأخرى التي يطرحها لوينسي فيمكننا ان نجملها باختصار فيما يلي:
1 ــ ان اكتشاف فاسكو دي جاما رأس الرجاء الصالح أضر بالمصالح التجارية العربية.
2 ــ إن اكتشاف كولومبوس أمريكا كان نقطة تحول نحو صعود الرأسمالية الجنينية الى ما هي عليه في وقتنا الحاضر، وذلك لأن هذا الاكتشاف عاد عليها تجاريا بأموال ضخمة مكنها لاحقا ضخها في إنشاء المصانع الكبيرة.
3 ــ إن تجارة الرقيق هي الأخرى درت أرباحا خيالية على التجار الأوروبيين، رغم أنها تجارة لا أخلاقية يندى لها جبين البشرية.
4 ــ إن تمكن الرأسمالية “الوليدة” في أوروبا من طرح أفكار جديدة، بما في ذلك حول كيفية تنمية الأموال والاستثمار في الصناعة كل ذلك أسهم تدريجيا في تطوير قوى الانتاج وتشجيع الاختراعات والبحث العلمي.
5 ــ إن انتقال جيش من عمال الأرض في القرى الى المدن للعمل في المصانع وفر فرصة ذهبية للرأسمالي الصناعي لاستغلالهم بأجور زهيدة مادام ليس أمامهم سوى العمل لسد الكفاف أو الموت جوعا (وهذا ما يذكرنا بحال العمالة الآسيوية المهاجرة إلى الخليج).
6 ــ إن الرأسمالية المالية لم تحقق نجاحا كبيرا إلا منذ أواخر القرن الـ 19م إثر سيطرة البنوك على الاقتصاد.
7 ــ ان النهب الاستعماري المنهجي لثروات الشعوب المستعمرة كان وراء تمكن الغرب من تحسين ظروف عماله وتعويم أو تأجيل انفجارهم الطبقي في حين ظل عمال المستعمرات على حالهم السيئ المزري، الذي يزداد تفاقما سواء في زمن الاستعمار أم في عصرنا. وان الغرب مازال بوسائل جديدة يمارس هذا النهب حتى بعد استقلال المستعمرات بفضل تمكنه من عرقلة قيام أنظمة وطنية ديمقراطية مستقلة، بل دعم قيام أنظمة تدين له بالتبعية والولاء. وبالتالي فإن النهب الاستعماري وآليات الرأسمالية لهما الفضل الأول فيما بلغته الرأسمالية من تطور هائل اليوم.
وبالإضافة الى ملاحظتنا على ما يغلب على الجزء الأكبر من الدراسة من طابع سردي اقتباسي فان الدراسة يغلب عليها أيضا التحليل الماركسي التقليدي في تفسير صعود الرأسمالية وقوتها أكثر من التحليل الماركسي التجديدي، ان صح القول، ناهيك عن تغييب الباحث تغييبا مطلقا لدور العامل الديمقراطي في ذلك الصعود وفي تكيفها مع الأزمات الدورية وقدرتها على الخروج منها معافاة، لكن كل ذلك لا يقلل بطبيعة الحال من قيمة الدراسة كما تمثلت في النقاط السبع الآنفة الذكر وغيرها من النقاط الأخرى.
صحيفة اخبار الخليج
17 نوفمبر 2009