المنشور

مقاربة إسلامية للحداثة

تنشأ في العديد من الدول الإسلامية جماعاتٌ صغيرةٌ من الفرقِ الدينيةِ الإسلامية متجهةً لاختيار طريق الحداثة بما يتضمنهُ من مبادئ ديمقراطية وعلمانية وعقلانية.
تنشأ ضروراتٌ للفئاتِ الاجتماعية الصغيرة من محامين ومثقفين وموظفين وتجار وغيرهم كي تعارض دكتاتوريتين: دكتاتورية الأنظمة الحكومية الرأسمالية، ودكتاتورية الجماعات السياسية المذهبية المستخدمة للإسلام في سبيل توسيعِ نفوذِها المحافظ الخطر على تطور الأمم الإسلامية.
استيلاءُ الحكوماتِ على أغلبيةِ المال العام يجعل الشركات الخاصة والتجار الصغار تعيش على فيضِها وعلى رحمتِها وميزانياتِها واعتماداتها، فمن رضيتْ عنه صمدَ وكبرَ في السوق ومن لم تصله مظلةُ الرحمةِ غرقَ أو ظلَ يبحثُ عن الأوكسجين المغذي وهو يوشكُ على الموت الاقتصادي.
ويتمكن بعضُ الجماعات المذهبية السياسية من العيش والصمود والمجابهة ضد الحكومات الرأسمالية البيروقراطية هذه، بسببِ تنوعِ البلدان الإسلامية وتعارض سياسات حكوماتها، فهذا التنوعُ يتيحُ أن تصلَ تلك الجماعاتُ المسيسةُ للإسلام بشكلٍ محافظٍ ويميني على أموال، تُقدم كهباتٍ من المؤمنين أو من جمعياتٍ معينة أو من الدولِ مباشرةً أو من الأجهزة الخفية عموماً، لتقوم تلك الجماعات السياسية الدينية المتنوعة، بدعم سياسات تلك الحكومات المرسلة للأموال.
وقد تلاقت فيما سبق مصالحُ وأهدافُ كلٍ من تلك الحكومات وتلك التنظيمات السياسية، في مواجهةِ خطٍ قومي تحرري، أو تحديثي يضعفُ وجود تلك الدول المحافظة التي غابت عنها المؤسساتُ الحديثة، وتجمدتْ فيها العلاقات الاجتماعية والسياسية بين الطبقات الشعبية والأجهزة وضعفت العلاقات بين المناطق والجمهور، وبين النصوص الإسلامية والمقاربات العقلانية التحديثية، ودخلت مثل تلك الدول في تفككٍ وبدءِ تمزق داخلي بسبب تلك السياسة الدينية المحافظة المتخلفة.
لكن العلاقات تتغير بين الدول والجماعات الدينية، فقد أحس العديدُ من الدولِ المحافظة بخطورةِ البقاءِ في مثل هذا الجمود، وللعداء للغرب الديمقراطي، فحاولتْ أن تغيرَ من أجندتِها، في حين بقيت بعضُ الجماعاتِ التقليدية في ذات السياسة المعادية للتحولات الديمقراطية العالمية. وبقاؤها في ذلك حدث بسبب خطوطها الدينية المقامة فوق أجندة طائفية وأفكار غير عقلانية وغير ديمقراطية وذكورية شمولية، وعدم قدرة تنظيماتها على المراجعة النقدية، وعلى المقاربة مع الحداثة وعلى تقديس الزعماء وعدم الجدل مع النصوص.
إن ظهور جماعات صغيرة إسلامية تقاربُ الحداثةَ والديمقراطية، يأتي من ظهور تلك الفئات من المتعلمين والتجار والموظفين القادرة على تكوين تنظيماتٍ من دون اللجوء للتبعية للدول، والحصول على أموالِها، وبالتالي تعيشُ تحت مظلتها السياسية – الايديولوجية، ومن هنا استطاعت أن تطرح أشياءَ جديدةً على صعيد التنظيمات الدينية، خاصة القبول بالعلمانية، أي فصل الدين عن الدولة، وتغيير حتى مواد (جوهرية) في الدساتير كالنص الغامض المؤدلج لخدمة اليمين: (الإسلام دين الدولة) والدفاع عن حق المواطنين في كل الآراء المتعددة، كما تفعلُ جماعةُ القرآنيين في مصر، لسحبِ عمليةِ التجارةِ الطويلة المضنية للإسلام من قبل قوى الاستغلال، ولتفريقها المواطنين ولجعل البنى الاجتماعية محافظةً يتجذرُ فيها القهرُ للنساء والعامة، وقد دافع رئيسُ الجمعية أحمد صبحي منصور عن الباحث العلماني سيد القمني ، وحقه في نشر آرائه، كذلك رغم معارضته القوية لآرائه، طارحاً أفكاراً بعضها خصب وبعضها غير ناضجٍ كالحديثِ عن الأماكن المقدسة في السعودية.
أو كما تفعل جماعة الإسلام الديمقراطي في سوريا في خطتها لديمقراطية علمانية وطنية.
فثمة قوى متجبرةٌ حكوميةٌ استولتْ على معظم الشركات الكبرى ولا تريدُ حكماً ديمقراطياً، وكرست المذهبية السياسية كشكل ديني أساسي، وأوجدت تحجراً سياسياً تحتهُ تئنُ البلدانُ الإسلامية بفسادٍ وتخلف خطرين على مصيرها نفسه. ومشكلةُ الجماعاتِ الإسلامية الموحدة هذه غياب الدعم من القطاعات الاقتصادية الخاصة بدرجة أساسية، وكونها جماعات ثقافية تنويرية وليست قوى سياسية ذات أهمية وسط الجمهور. كذلك فإنها تعاني من اليسار التقليدي وعدم فهمهِ لتعقيداتِ المرحلة، ومن تأييدهِ للجماعاتِ الطائفية، بدلاً من تصعيد التنوير والديمقراطية. فهي ضائعةٌ بين يمينٍ خائفٍ ويسارٍ جامد!

صحيفة اخبار الخليج
17 نوفمبر 2009