المنشور

صراع الرأسماليتين الكونيتين

إذا كان شكلُ الرأسماليةِ الغربيةِ قد اتخذَ طابعاً عالمياً تغلغلياً على مدى قرون، فهو قد اتسم بالجمود حيناً وبالمرونة في أحيان كثيرة، جاعلاً قوى الإنتاج الغربية في حراك مستمر.
في القرون الأولى بدءاً من القرن الـ 15 حتى نهاية القرن الـ 19، كانت القرون الأولى هي قرون التجميع الرأسمالي والتراكم التي جعلتْ من الرأسمال الصناعي بؤرة الرساميل المختلفة ومفجر العلوم والمدنية، وهي قرونُ الاستعمار وجلب المواد الخام وتكوين شبكات الأسواق، التي أنشأتْ كذلك بؤرةَ الرأسماليات الكبرى، أمريكا الشمالية، وبريطانيا وفرنسا، لتنضم إليها بضعفٍ وتلكؤ الأخريات: ألمانيا وإيطاليا واليابان، دولُ المحورِ المتخلف والقافز في مغامرات عالمية، وعلى مدى العلاقات بين الرأسمال الصناعي وبقية الفروع، وشبكة العلوم والقوى العاملة، كان يجري التراكم التقني، الأبطأ، في وضعِ سيطرةِ الصناعة.
ومع تجذرِ الرأسمالِ الصناعي الغربي حجر الزاوية في الحضارةِ البشرية المعاصرة، كان بقيةُ العالم ينتقلُ لتطوراتٍ رأسماليةٍ متفاوتةٍ ضعيفة، خاصةً في شرق آسيا حيث البلدان الأكبر من حيث الرقعة الجغرافية والمليئة بالمواد الخام والثروات البِكر، لكن هذا الرأسمال الصناعي الشرقي المُفترضَ نموه بقوة، كان ممنوعاً، ولهذا كانت الجزرُ اليابانيةُ البعيدة المُحصنة، شكلاً طبيعياً للحماية الاقتصادية، فيما كانت الثوراتُ(الشيوعية) شكلاً آخر لتلك الحماية.
وعرفتْ أمريكا اللاتينية شكلاً آخر لتلك الثورة وتجلتْ بحروبِ العصاباتِ الفاشلة عموما في إنتاجِ رأسماليةٍ قومية لاتينية. ومع سقوط المعسكر(الاشتراكي) حصلتْ على تلك الفرصة الكبيرة للتطور القومي المستقل.
إن تصادم الرأسماليتين الكبريين بدأ أولاً بشكلِ حربٍ بين الرأسمالياتِ الغربية نفسِها، بين المستوى المتطور وبين المستوى المتخلف، بين أمريكا وحلفائِها وبين ألمانيا وحلفائها، وفي هذه الحرب المدمرة توحدتْ الرأسمالياتُ الغربيةُ في بنيتِها العامة عبر التناقض، فرغم عدم حصول البلدان الأقل تطوراً على مستعمرات، وهو الهدفُ الذي عملتْ لأجلهِ، وذلك بسببِ تراجعِ نفقاتِها العسكرية ولعدمِ وجودِ جيوشٍ تصرفُ عليها وهي المهزومة والممنوعة من تكوين الجيوش، فكانت نتيجةُ هزيمتِها هي نفسها سببَ نموِها المتفوق فيما بعد.
عبرَت حركاتُ (الاشتراكية) والتحرر الوطني عن تشكيلِ رأسمالياتٍ وطنية مضادةٍ للرأسماليات المسيطرة، وهي أمورٌ كانت تضيقُ الأسواقَ، وتقلصُ الموادَ الخامَ المستنزفةَ من الشعوب، ومن جراءِ ذلك واصلتْ بنيةُ الرأسماليةِ المتطورةِ الغربية في التغيرِ التقني بعد تلك التراكمات الكبيرة في عدةِ قرون سابقة، وقد غدا الرأسمالُ المالي هو بؤرة الرساميل معبراً عن نقلة كبرى في البنية العامة للرأسمالية البشرية، وصارت قوى العمل اليدوي متأخرةً في أهميتِها الكاسحة السابقة، وانتقلت قوى العمل للذهن، وقوى التقنية، لتبدأ ثورة التقنيات والبرمجيات التي بدأت صغيرةً نادرةً، لتغدو بعد عقودٍ ثورةً تجتاحُ قوى الإنتاج وحقولَ المعرفة كافة.
ومن هنا فإنه لا المساحة الجغرافية ولا وجود الموادِ الخامِ الكثيرة غدت هي صلبُ الرأسمالية بعد أن صار رأسمالُ المال العالمي المتنقلِ مجسداً في أوراق كونية، لتغدو بلدان أصغر مساحةً، وأقل تبذيراً عسكرياً، هي قائدةُ التحولاتِ الرأسمالية، وغدتْ البضائعُ الاستهلاكيةُ المتطورة – التي تُصنع من خلال الثورة التقنية – قذائفَ كبيرةً تسقطُ الدولَ الكبرى المنتصرةَ في الحرب العالمية السابقة، كأمريكا من موقعها القيادي الأول وتفككُ الاتحادَ السوفيتي وتهمشُ بريطانيا الأمبراطورية السابقة.
إن سقوط الاتحاد السوفيتي هو بفعلِ حراك الرأسمالية القومية الروسية، التي تشكلتْ برجوازيتها في حضنِ الاشتراكية، وانتفضتْ قواها البيروقراطيةُ والعسكريةُ على الاذلال القومي الجديد المتمثل في سقوطِ برلين، وتهميشِ روسيا، فلم تعدْ قادرةً على دفعِ فواتير أممٍ متخلفة تابعة، وكانت تدفعُ ملايين الدولارات لدولٍ أخرى في أغرب تبعيةٍ بشريةٍ في التاريخ، فأرادتْ أن تصل لمستوى ألمانيا واليابان تقنياً بعد أن وجدتْ نفسَها مهزومةً في صراع الرأسماليات المتقدمة.
لكنها لم تستطع ذلك بسرعة، بسبب مواصلتها النفقات العسكرية الباهظة، وكون إنشائِها لبنيتِها التحتية الصناعية قد كلفَ كثيراً وجمد جوانب كبيرة من القوى المعرفية وحراك العاملين، أي أنه كرس القوى اليدوية، والبيروقراطيات، وجاء تنامي قطاعها الخاص السريع المذهل بأسباب إدارية وبفساد وليس معتمِداً على تفجرِ القوى التقنية من داخلِ منظومةِ الإنتاج.
وهكذا فإن صراعَ الرأسمالياتِ الكبرى قد أدى إلى تداخلها، وتكوين بنية رأسمالية كونية مشتركة، ذات مستويات متعددة، ومتضادة في جوانبٍ عديدة منها، بسبب تفاوت التطور التاريخي لكل منها، وتباين تطور القطاعات الرئيسية، واختلاف قوى التقنية في كل منها، وتباين أسواقها ومستوى قوى العمل فيها. وبهذا فإن تناقضات جديدة ملتهبة تتشكلُ بينها، للاستحواذ على الأسواق، وعلى المواد الخام الثمينة: البترول والذهب وغيرهما، والدول المتأخرة فيها تلجأ للرأسماليات المتخلفة في العالم الثالث تستغلها بأشكال متدنية من التجارة، كتجارة السلاح والمخدرات والجنس والاتجار بالبشر، فمازالت الهوة الاقتصادية بين الغرب والشرق موجودة.

صحيفة اخبار الخليج
16 نوفمبر 2009