ورثتْ الحركاتُ الاشتراكية كل مخاض وتجارب البشر السابقين من أجل التغيير والمساواة الاجتماعية وأحلام العدل، وظهرت الاشتراكية العلمية مفرقة نفسها عن الاشتراكية الخيالية، باعتبارها باحثة موضوعية في سببيات زوال الرأسمالية وسببيات نشوء الاشتراكية.
وقد استطاعت قوى الحضارة الغربية بما فيها من مؤسسات ديمقراطية رأسمالية “شعبية” وشفافية ومن مراقبة وقوى عقول باحثة كثيرة وجمهور متعلم، أن تحد من مخاطر نشوء الاشتراكية بشكل عنيف وعبر انقلابات كارثية ووضعت حدوداً لصراع الفريقين الاجتماعيين: مالكي وسائل الإنتاج والعاملين في هذه الوسائل في ظروف قاسية ولكنها تتغير بنضالهم داخل هذه المجتمعات الصانعة للمؤسسات الوسطى المقاربة بين القوى المتصارعة.
وحين قاربت الفاشية الاشتراكية وزعمت انها جزء منها، بانت إحدى علامات الأخطار المحدقة بالدعوة الاشتراكية “النبيلة” الإنسانية، من التصاق دعواتٍ أخرى بها، وهي دعوات دكتاتورية أسسها أناس منتفخون بالعظمة الجنونية، صرخوا من أجل إنقاذ الفقراء والعمال المأزومين، لكنهم أرادوا إنشاء مستعمرات بعد أن انتهى أو كاد عصر الاستعمار.
في جنون الاشتراكيات الوطنية لدى موسوليني وهتلر نلمح ثأر الأمم المتأخرة عن النمو الديمقراطي، التي لم تشهد تاريخا ديمقراطيا عريقا، وهذا التضخم القومي الهائل المتواري، خاصة لدى ألمانيا الجريح المهزومة من حربٍ عالمية، ومن اقتطاع لأراضيها، ومن جذورٍ عسكرية دموية تشكلتْ في تاريخها التوحيدي، ومن هذه الرغبة المتأججة لديها للثأر والرفعة وسحق الآخرين.
إن أغلب الدعوات “الاشتراكية” هي دعوات قومية، لأمم ولشعوب متخلفة، أو مسحوقة، أو مهانة، تريد العزة والقفز على تخلفها، وتستغلها وتوظفها أحزاب شتى قومية واشتراكية ودينية. وتغدو في دول الشرق مرادفة للتحرر الوطني والتقدم التحديثي، ولكنها تفتقدُ في الاشتراكية ما كان مؤسسا غربيا فيها، وهي شروط الحداثة والعلمانية والديمقراطية والعقلانية. فأغلب دول الشرق وأمريكا اللاتينية تفتقد هذه الشروط، وهي حين تزعم انها سوف تقفز للاشتراكية إنما تقوم بعملية خداع ايديولوجية.
لقد كانت دعوات قومية دكتاتورية غير عقلانية وغير علمانية وغير ديمقراطية، إن تلك المضامين القومية المتوارية توضع عليها طبقات كثيفة من الشعارات الأخرى، لكن القومية السائدة المتوارية المسيطرة تظهر مع نمو البناء “الاشتراكي”. إن روح الاشتراكية في أمريكا اللاتينية هي القومية اللاتينية ذات المذهب الكاثوليكي المعادية لأمريكا الشمالية البروتستانتية الرأسمالية المتفوقة. ويغدو استخدام شعارات رفعة الكادحين من قبيل توظيف قوى الجمهور البسيط لتضحيات جسام وتشكيل رأسماليات لاتينية، مثلما حدث في روسيا والصين.
إن تداخل “الاشتراكية” هنا مع اللاعقلانية والدكتاتورية يتجسد في قيام نخبة صغيرة بتقرير مصير أمم، وهو أمر يتحقق من خلال تنامي القوى العسكرية الباطشة وأجهزة المخابرات وما تفعله من كوارث تجاه الحقوق الإنسانية وتجاه الوعي العقلاني، وتجاه العلمانية، لأنها بعمليات سحق الأديان إنما تقوي أشكالها اللاعقلانية، وتنشئ ديانة عبادة الزعماء، وهي عودة لأشكال بدائية من التدين. ثم هي أشكال تنهار ويعود الوعي الديني المحافظُ العتيق.
لكن “الاشتراكيات” القومية الشرقية خاصة الكبرى منها، المجسدة لسيرورة تطور الأمم العظيمة كروسيا والصين والهند (والأخيرة أسرعت إلى نفض الاشتراكية الوطنية سريعاً)، تؤسس مقاربة لافتة مع الرأسماليات الغربية، فتدخل الرأسمالية الحديثة من الأبواب الخلفية ومن القمع، ومن الفساد الحكومي، ولكن الصراع الاجتماعي لا ينتهي، بل يتمظهر بأشكال أخرى.
إن قيام الاشتراكية يحتاج إلى أسس موضوعية طويلة، لأن احتكار الفوائض الاقتصادية لمجموعات قليلة، ولأمم صغيرة، يفجر تطور البشرية ربما إلى الهلاك العام، وتغدو السيطرة على قوى الإنتاج واستخدامها لصالح الأغلبية مهمة، لكن من خلال أدوات المؤسسات العريقة وقوى الأغلبية وليس من خلال عمل النخب الصغيرة، أو المغامرات.
صحيفة اخبار الخليج
15 نوفمبر 2009