المنشور

11 سبتمبر.. ماذا يعني لشعب تشيلي؟


من نافلة القول إن تاريخ الحادي عشر من سبتمبر 2001 أضحى يضاهي في قوة الذاكرة الجماعية الأمريكية تواريخ الأحداث والمناسبات الكبرى المهمة في التاريخ السياسي الحديث للولايات المتحدة بل العالم بأسره، وذلك لما شكله هذا الحدث من هزة سياسية كبرى صعقت الولايات المتحدة والعالم والمتمثل في ضرب برجي مركز التجارة العالمي بنيويورك والبنتاجون بواشنطن في ذلك اليوم المشئوم، وهو الحدث الذي مازالت تداعياته وانعكاساته على صعيدي السياستين الداخلية والخارجية للولايات المتحدة تتوالى إلى يومنا هذا.

لكن في حين بات الأمريكيون يحفظون عن ظهر قلب ما يرمز إليه ذلك اليوم التاريخي من عام 2001 من مغزى سياسي فور الإشارة إليه أو حتى النطق بيومه مجردا من ذكر اقترانه بذلك الحدث، فإن القليل من الأمريكيين أنفسهم بل من سائر شعوب العالم وساستها من يتذكر ما يرتبط بهذا اليوم تحديدا من ذكرى مشئومة في تاريخ تشيلي الحديث والمتمثلة في وقوع واحد من أبشع وأخطر الانقلابات العسكرية الدموية في تاريخ القارة الأمريكية وتاريخ العالم برمته وذلك حينما قام الجنرال التشيلي بينوشيه بتنفيذ ذاك الانقلاب بتنسيق وتخطيط ودعم مسبق من المخابرات المركزية الأمريكية “السي.آي.إيه” على الحكومة الشرعية الدستورية الديمقراطية المنتخبة برئاسة الرئيس المنتخب سلفادور الليندي.

إن ذكرى حوادث ذلك اليوم المشئوم التي راح ضحيتها الكثير من وطنيي وشرفاء الشعب التشيلي، سواء في مقاومة الانقلاب دفاعا عن الحكومة الشرعية، أم ممن سيقوا إلى غياهب السجون ومقاصل التعذيب والمشانق التي نصبت وبضمنهم آلاف الشباب الوطنيين الذين سيقوا إلى استاد المدينة المركزي الذي حول إلى معسكر كبير للاعتقال مازالت حية طرية في ذاكرة الملايين من شعب تشيلي وشرفاء العالم، دع عنك آلاف من فرض عليهم النفي الاختياري في الخارج أو أجبروا على مغادرة وطنهم.

لا أحد بالطبع من الطبقة السياسية الأمريكية أو نخبتها الديمقراطية الحاكمة يريد أن يتوقف اليوم لإجراء مراجعة شجاعة لواحدة من أكثر جرائم أمريكا السياسية في التاريخ المعاصر بحق شعب مسالم مجاور لها لم تحترم حقه في الحياة ولا حقه في تقرير مصيره الداخلي بنفسه، فلم تكن واحدة من القوى السياسية لهذا الشعب تتبنى “الإرهاب” أو تهدد الأمن القومي للولايات المتحدة، جل ما في الأمر أن نتائج الانتخابات النيابية الحرة التي جرت في أوائل سبعينيات القرن الماضي والقائمة على التعددية السياسية لم يرق لها ما أسفرت عنه من فوز ساحق للأحزاب اليسارية التي شكلت فيما بينها حكومة ائتلافية متحدة عرفت بحكومة الوحدة الوطنية، وشرعت هذه الحكومة الجديدة مستخدمة صلاحياتها الدستورية بتأميم عدد من الشركات والاحتكارات التي لها استثمارات هائلة في تشيلي.

إن ما حدث في تشيلي في الحادي عشر من سبتمبر عام 1973 ليس عارا لا يمحى في سجل السياسة الأمريكية الدولية فحسب، بل يعد واحدا من أعظم الدروس على كذب ورياء الولايات المتحدة لدى تشدقها بالسعي إلى نشر حقوق الإنسان والوعي الديمقراطي في العالم أو المساعدة على إقامة الحكومات الديمقراطية في العالم هي التي لطالما دبرت وخططت للانقلابات العسكرية على حكومات عدد من الدول الديمقراطية التي لا تروق لها سياساتها أو لا تنسجم مع مصالحها، لا بل لم تتورع عن حماية عدد كبير من الدكتاتوريات والشموليات في العالم ودعمها بمختلف وسائل الدعم مادامت تحقق مآربها ومنافعها الاقتصادية والاستراتيجية حتى لو كانت تلك الدكتاتوريات لا تتمتع بأي رصيد شعبي في الداخل ولا تستند إلى أي شكل من أشكال الشرعية الدستورية.

ومن المفارقات التاريخية التي لا تخلو من مغزى أن من دبر وخطط لانقلاب بينوشيه على حكومة الرئيس التشيلي المغدور الليندي هو واحد من رؤساء الحزب الجمهوري، ألا هو الرئيس نيكسون الذي ترتبط باسمه واحدة من أشهر الفضائح السياسية الأمريكية في الخروج على قواعد اللعبة الديمقراطية المصممة على مصالح النظام الرأسمالي الأمريكي نفسه وذلك عندما ثبت ضلوعه في فضيحة التجسس على الحزب الديمقراطي المعروفة بفضيحة “ووترجيت” التي جرت إبان معركة الحملة والاستعدادات الانتخابية التي تنافس فيها الحزبان الديمقراطي والجمهوري وانتهت بوصول مرشح الثاني (نيكسون) إلى البيت الأبيض.

في صيف هذا العام وتحديدا عشية الذكرى الـ 36 الأخيرة لانقلاب بينوشيه غيب الموت أرملة الرئيس المقتول في ذلك الانقلاب الدموي المشئوم سلفادور الليندي، ألا هي السيدة هورتنسيا بوسي دي الليندي بعد أن قضت 36 عاما الأخيرة من حياتها حزينة على رحيل رفيق عمرها ومثلها الأعلى في الحياة والنضال السياسي ولاسيما أنها كانت شاهدة على قتله بتلك الصورة البشعة الغادرة في قصره الرئاسي في فجر الحادي عشر من سبتمبر من ذلك العام بتواطؤ مفضوح من الدولة الديمقراطية الأولى في العالم، كما كانت شاهدة برباطة جأش على كل المآسي والكوارث السياسية التي وقعت في بلادها على امتداد ما يقرب من عقدين في ظل الحكومة الفاشية للانقلابيين بقيادة بينوشيه ولكنها ظلت رغم حزنها صامدة ومثلا أعلى لبناتها وعائلتها ولكل رفاقها ومناضلي حزبها (الحزب الاشتراكي) والأحزاب اليسارية الأخرى المؤتلفة مع حزب زوجها في حكومة الوحدة الشعبية المنتخبة.

وعشية الذكرى المشئومة ذاتها صدر مؤخرا في الولايات المتحدة كتاب يحمل عنوان “11 سبتمبر الآخر” لتذكير الأمريكيين بأن هذا اليوم وإن حمل مغزى مرعبا لا يودون تذكره رغم أنه محفور في ذاكرتهم بحدث وقع في عام 2001 فإنه يحمل في المقابل مغزى مرعبا لأبناء الشعب التشيلي لارتباطه بحدث وقع عام 1973 متمثلا في انقلاب عسكري على حكومة بلادهم التي انتخبوها بكامل إرادتهم الحرة، انقلاب بتخطيط ودعم من جارتهم الكبرى وأستاذتهم وأستاذة العالم في الديمقراطية: الولايات المتحدة.

في مقدمة الكتاب وجه المشاركون في تأليفه رسالة إلى جارهم الشعب الأمريكي بأنهم متضامنون معه في مواجهة الإرهاب الذي تعرض له في 11 سبتمبر 2001، ولكنهم أرادوا تذكير الأمريكيين بأن شعبا آخر هو شعب تشيلي تعرض لمأساة كبرى في 11 سبتمبر آخر في عام 1973 لا تقارن بما تعرضوا له من مأساة في ذات اليوم من عام 2001، وان الولايات المتحدة تتحمل المسئولية التاريخية عما تعرض له هذا الشعب من معاناة سنوات طويلة.

فهل يقدم الرئيس الأمريكي الديمقراطي أوباما على خطوة شجاعة بالاعتذار أو رد الاعتبار لتشيلي على ما ارتكبته بلاده بحق شعبها المغبون المظلوم؟ نشك في ذلك.

صحيفة اخبار الخليج
11 نوفمبر 2009