أوضحنا في موضوع سابق بعض جذور الصراعِ الاقتصادي بين الرأسماليتين الحكومية والخاصة الإيرانيتين في تاريخهما الراهن، ولكنه أمر لا يكشف الأدوات الفكرية المستخدمة وهي عامل خطر في تشكيل الصراع وتطوره.
ولابد من القول إنه من الصعوبة العثور على الإحصائيات عن أحجام كل من الفريقين، خاصة الرأسمالية الخاصة المغيبة الحضور في الأرقام والوجود الاجتماعي معا.
ولكن من الواضح ضخامة شركات القطاع العام التابعة للدولة وخاصة للحرس الثوري، الذي غدا من الملاك الكبار للمؤسسات الاقتصادية والعسكرية والتقنية.
ونظرا لتضاؤل حجم الرأسمالية الخاصة، رغم بروزها الكبير في السوق التجارية، فإن وجودها السياسي يغدو كذلك ضئيلا، خاصة في هذه المرحلة.
ولهذا فإننا نلمح أطيافها من خلال تعبيرات سياسية وفكرية، أكثر منها مصطلحات حداثية منتمية بوضوح للحداثة وللديمقراطية والعلمانية.
فالمضمون الاقتصادي الرأسمالي الحر، وخاصة المصانع المملوكة لأفراد، تكاد لا تظهر في اللوحة الاقتصادية العامة، وكذلك فإن مصانع الدولة المهيمنة على الثروة النفطية والغازية تغدو هي المتحكمة في أغلبية الثروة وتوزيعها، فتظهر هنا سحابة الخليفة الأموي المسيطر حيث يكون مطرها النفطي في بعضِ الجيوب، وهو أمر يجعل الرأسمال الخاص الصناعي خاصة ذليلا وتابعاً لرأسمال المصانع الاستخراجية المملوكة لجناح معين مهيمن في السلطة.
لكن التعبيرات الايديولوجية لا يمكن أن تتخفى تماماً، ورغم ان مذهب الجعفرية هو مذهب مناضل في تاريخ المذاهب الإسلامية، لكن جرى له ما جرى لبقية المذاهب الإسلامية من تحكم الدول الغنية وهيمنتها عليه، ومن الصعب ظهور التعبير عن عامة المسلمين من خلال عباءات هذه المذاهب بعد هذه القرون الطوال من التحكم وإعادة الإنتاج.
ومع هذا فإن ذلك لا يعدم من وجود علماء مناضلين يظلون استثنائيين بين الجموع التابعة للدول، التي تفتي بمعاشها لمن بيده الأرزاق، أما أن يتابعوا بدقة بين ما يجرى في الواقع وكيفية تمثُله دينياً وتجسيده سياسياً حداثياً وديمقراطياً فذلك أشبه بالمستحيل.
ولكن يكفي أنهم يشيرون إلى ما هو عام ديمقراطي هو في مصلحة الأغلبية الشعبية، ولهذا جرى انحياز ثلة من علماء الفقه الشيعي (للثورة الخضراء)، رغم البطش الكبير بها، وقد دعت هذه النخبة للحرية وانتقدت تزوير الانتخابات، لكنها لم تستطع أن توحد العامة والخاصة من أجل الديمقراطية. ولذلك أسباب تاريخية طويلة.
إن الأدوات الفكريةَ المستخدمة من قبل طليعة الثورة الخضراء هذه متوارية، ذات ظلال كثيفة، معقدة، لاتزال في مرحلة تقية فكرية، تتلبس الأردية التقليدية في محاولتِها للتعبير عن نضال ديمقراطي، وأقصى تجلياتها كانت لدى عبدالكريم سروش، الذي توجه حتى للإرث الفكري النبوي وقام بتحليله، لكن منظري الثورة الخضراء ظلوا في الأردية الدينية، وهي أردية محافظة، تجعلهم مع الطبقة الغنية التقليدية المتحكمة في الثروة، وهم في ذات الوقت يريدون التحديث والديمقراطية!
لا يعني هذا ضرورة الخروج من الأردية الدينية، بل تعني فصل البرنامج السياسي عن الدين، الدين الذي قامت ذات هذه القوى المتحكمة في القرون السابقة بتفصيله على مقاس الحكام المسيطرين على الثروة العامة، بطريقة الغيمة الأموية وتوزيع خيراتها.
ولهذا فإن الفئةَ الخضراء تمثل مرحلةً انتقالية تتوجه نحو إبعاد قيادة الحرس الثوري عن التحكم في الدولة، وهي قضية بالغة الحساسية والأهمية لإيران والمنطقة، وتغدو معركة جبهويةً تخص معظم الإيرانيين من أجل تفادي مخاطر العسكرة والحروب، ولتوجيه الفوائض نحو التنمية الداخلية والسلام، ومن هنا حرص قادة الجماعة على عدم توسيع الشعارات والتحليلات، واقتصارها على نقطة سياسية تكتيكية، لكنها تعبر كذلك عن جثومهم بين الطبقة الغنية المسيطرة، وإعادة العلاقة بين كتلِها السياسية والاقتصادية، لا أن تخرج أو تزاح هذه الطبقة كلياً.
كما تعبر التكتيكات المستخدمة في نضال الشوارع السلمي عن هذه العقلانية السياسية المحدودة، التي تضغط حتى تحقيق مطلبها. ولو تحقق مطلبها الراهن فإنه لن يتم تغيير فرد رئيس الجمهورية بل خاصة أساساً سيتم تغيير الفئة المسيطرة من القوى الحاكمة وهي الحرس الثوري. وبالتالي فإن تغييراً جذرياً لن يحدث لبنية النظام، ولكن إصرار القوى المحافظة على عدم التنازل سوف يوسع الأهداف والتغييرات لتغدو الحريات أعمق ويتوجه النظام لسياسات مختلفة وهذا سيظهر في حينه وفي ملابساته.
صحيفة اخبار الخليج
11 نوفمبر 2009