المنشور

الجمهوريات العربية وإشكالية التوريث

منذ مطالع العقد والجدل السياسي حول تحويل الجمهوريات العربية إلى جمهوريات وراثية في الحكم شبيهة بالبلدان الملكية متواصل يثور بين الفينة والاخرى سواء على مستوى الساحة السياسية العربية بوجه عام أم على المستوى القطْري الداخلي في الجمهوريات التي تحوم الشكوك حول نيات مبيتة لرؤسائها لتوريث الحكم من بعدهم الى ابنائهم الكبار.

ولم يكن هذا الجدل قبل ذلك، وتحديدا في تسعينيات القرن الماضي، غائبا بل كان مطروحا بصورة اقل درجة من البروز اذ كانت ثمة شكوك اثيرت حول نيات رؤساء جمهوريات ليبيا ومصر والعراق وسوريا واليمن لتأهيل ابنائهم البكر لوراثة الحكم من بعدهم حينما يأزف رحيلهم عنه، ثم تعززت هذه الظنون في اواخر التسعينيات على اثر تسلم ابن حافظ الاسد “بشار” السلطة والحكم غداة وفاة ابيه الذي قام بتأهيله مسبقا وليا للعهد بعد مقتل ابنه الأكبر “باسل” في حادث سير. أما في العراق فقد انتهت الشكوك التي تثار في نيات الرئيس العراقي الراحل صدام حسين تأهيل ابنه البكر عدي بإسقاط النظام من قبل قوات الغزو الأمريكي عام .2003

ومع ان الشكوك مازالت تثار وتتجدد بين الفينة والاخرى فيما يتعلق بليبيا واليمن الا انها تكاد تتركز حاليا في مصر بوجه خاص عبر اثارة الظنون ووجود نيات للرئيس المصري حسني مبارك لتأهيل وتوريث الحكم من بعده لابنه جمال.
ومع ان الرئيس مبارك قد نفى مرارا خلال السنوات القليلة الماضية اي صحة لتلك الظنون، مؤكدا ان مصر ليست سوريا وذلك في اشارة غامزة تعقيبية على من يستشهدون بالرئيس السوري حافظ الاسد الذي رغم انه لم يكن يصارح شعبه بنياته الحقيقية لتوريث ابنه بشار للحكم ثم فوجئ الجميع بتنفيذ رفاقه في السلطة ما يشبه الوصية المخفية او غير المعلنة بتعديل فوري للدستور ليمكنوا البرلمان من انتخابه للجمهورية خلفا لوالده.

ولم يكن الرئيس مبارك وحده الذي يحاول تبديد هذه الظنون بل حتى ابنه جمال نفسه يبذل جهودا هو الآخر لتبديد أو الغاء تلك الشكوك حول توريثه او اغلاق هذا الملف على الاقل في الظروف الراهنة.

لكن كل تلك التطمينات بدت كأنها غير كافية لاقناع قوى المعارضة بأن شكوكها في هذا الصدد ليست في محلها فاستمرت تثير زوابع المخاوف، بل تؤكدها بين الفينة والاخرى مستعينة في دلالاتها هذه بالصمت “المريب” من قبل الدوائر المعنية داخل السلطة وذلك بعدم الرد على ما تبديه من شكوك حول بعض المظاهر والمواقف التي تصدر عن قمة هرم السلطة نفسها، او لجوء تلك الدوائر الى الرد الغامض الملتبس الذي يعزز تلك الشكوك لديها.

وازاء حالة اللايقين رفعت قوى المعارضة في السنوات الاخيرة شعارات من قبيل “ما يحكمش” او “لا للتوريث”، وتشكلت جماعة من المعارضة تحت اسم “كفاية” منذ عشية اعادة انتخاب الرئيس لولاية خامسة عام .2006
في الآونة الأخيرة اثيرت هذه المسألة من جديد بقوة بمناسبة انعقاد مؤتمر الحزب الوطني الحاكم، فكان ان سُئِل جمال مبارك في مؤتمره الصحفي، باعتباره احد قادة الحزب، عمن سيكون مرشح الحزب الحاكم في انتخابات الرئاسة عام 2011؟ فرد “لكل حادث حديث”، واضاف: “لا يوجد تفكير حالي لتحديد اسم مرشح لتلك الانتخابات”.

لعل من ابرز الباحثين العرب الذين تناولوا مسألة التوريث في الانظمة الجمهورية العربية المعاصرة الباحث اللبناني خليل أحمد خليل وقد اعد دراسة بذلك تحت عنوان “التوريث السياسي في الانظمة الجمهورية العربية المعاصرة” صدرت في كتاب عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.. واهم ما في هذه الدراسة ان الباحث يؤصل جذور ظاهرة التوريث السياسي في الجمهوريات العربية بأنها كانت موجودة قبل انتقالها الى طور توريث الحكم الى الابناء في اشكال اخرى تتمثل في توارث الاحزاب الحاكمة والمؤسسات العسكرية التي استولت مجموعات منها على السلطة والحكم او في صورة احتكار الرئاسة من قبل طوائف او عائلات كما في النموذج اللبناني ناهيك عن تقادم هذه المجموعات في السلطة.

والمشكلة ان قوى المعارضة المصرية تنسى انه سواء صحت مخاوفها من وجود نيات في الرئاسة لتوريث الحكم للابن تحت اي عنوان او مسوغ دستوري او حزبي أم لم تصح فإن التحدي الكبير الذي ينتصب امامها والقضية الكبرى هي قضية ومعركة مدى قدرتها على الدفع باتجاه الاصلاح الشامل وليس الانجرار نحو التركيز في قضية فرعية، فإذا ما سلمنا مع الباحث اللبناني خليل بوجود مظاهر واشكال اخرى من التوريث كامنة داخل الانظمة الجمهورية العربية على نحو ما ذكرنا، آنفا، فماذا عسى سيفيد المعارضة المصرية اذا ما جيء بمرشح رئاسي آخر قوي مدعوم من الحزب الحاكم والسلطة السياسية غير ابن الرئيس ليواصل بدوره نهجا محافظا لا يساعد على تجذير الاصلاح السياسي سوى انها في هذه الحالة كسبت استبدال التوريث بالمعنى القرابي العرقي، الى التوريث بالمعنى الحزبي.. فهل هذا ما يرضيها؟

صحيفة اخبار الخليج
10 نوفمبر 2009