إن تسليم القيادة للمذهبيين السياسيين بشكلٍ عملي كان تعبيراً عن تلاقي يمينين، فلا يمكن لليسار أن يسلمَ القيادةَ لليمين الديني، بغض النظر عن أخطاء الأخير.
اليمين الديني لا يستطيع أن يسايرَ العصر، فهو يبعثُ علاقات قديمة لا تتعايشُ مع العلاقات الجديدة وتحديات العصر ونموه. وما يفعلهُ هو العودةُ للوراء وهي عودةٌ مكلفةٌ رهيبةٌ ثقيلة من الناحيتين السياسية والاجتماعية.
تنشأ بالضرورة وعبر هذا الصدام بين يمين محافظ مضاد للعصر وتطورات الحياة، علمانيةٌ عفويةٌ لدى الجمهور وخاصة الشباب، في رفض مثل هذه العودة للماضي التقليدي. ويتمسكُ الجمهورُ بدينهِ ولكن لا يقبلُ هذه النسخةَ الجامدةَ المشوهةَ من فهم الدين.
لكن العلمانية العفوية لا تستطيع أن تكونَ قوةً سياسيةً مؤثرة، وكذلك فإن الحياةَ الاجتماعية بظروفها واحتمالاتها لا تعطيه علمانية سياسية قوية توحدُ شعبَهُ وتحلُ مشكلاته، سواءً من قبل الفئات الغنية العليا أو من قبل جماعات البرجوازية الصغيرة المتحكمة في إنتاج السياسة.
إن اليسار الذي يسلم التاريخ السياسي لليمين الديني يكون هو قد انهار من الداخل عن اليسار وعن العلمانية. لقد تآكلتْ أدواتُ تحليله وطرائق نضاله.
ليس من محض المصادفات هذه التحولات والتلاقي: التآكل في اليسار والتداخل مع اليمين الديني. اليسارُ العالمي الشرقي (المعسكر الاشتراكي)، كان في حالاتِ احتضار، والبيروقراطياتُ الرأسمالية الحكومية كانت قد أبعدتْ العمالَ ومؤسساتهم، وذابتْ أصواتُ العمال، ولهذا رأينا الانهيارات التالية وصعودَ الحكوماتِ الرأسمالية بشكل واضح، وهذا ما حدث في التنظيمات اليسارية العربية عموماً، فقد حدث التآكل والجمود في القيادات، وفقدتْ التنظيماتُ العمالَ الذين ضحوا وتعبوا وانقطعت علاقاتهم بالتيارات، وتبدلت الحياة الاجتماعية في البلد ولم تعدْ المدنُ “النهضوية” هي التي تزخ أغلبية العمال، بل صار الريف، وأعطت هذه القواعد العمالية الريفية أجواءَ أخرى، وتداخلتْ مع الآراء السياسية المذهبية.
إن البنية الاجتماعية تبدلت، وأخذت الفئات الوسطى تلعب الأدوار الرئيسية في الحراك الاجتماعي السياسي، الذي نحا من المدن للريف، وتعملقت مؤسساتُ الرأسماليات الحكومية ووجهت البلد في مركزية شديدة.
إن ثوابت التنظيمات اليسارية الفكرية من علمانية وعقلانية وديمقراطية تآكلت على مدى السنين السابقة، لغيابِ أسسها الموضوعية والذاتية، فاستخدام الدين سياسيا كان يجري بشكل عفوي ولمجاملة الجمهور في مناسباته الدينية، وبعضها يتحول إلى مشاركة ايديولوجية فيها، فُرئيت التنظيمات الدينية كجزءٍ من ظاهرة طبيعية، لكنها كانت امتداداً لصعود الرأسمالية الحكومية الإيرانية، بشكل الثورة القومية الفارسية خاصة، التي جعلت الشعارات المذهبية أداتها في السيطرتين الداخلية والإقليمية، فحل تأثيرُ رأسمالية حكومية صاعدة محل رأسمالية حكومية ثورية شرقية آفلة، وضعفت المدنُ في مقابل صعود الأرياف، وتقزمتْ العلمانية كاتجاهاتٍ سياسية قوية، تنادي بفصلِ الدين عن الحكم، وعن السياسة.
وكانت التنظيماتُ السنية كذلك امتداداً لرأسماليات حكومية مناطقية محافظة، وتركزت في المدن، وتغلغلت في الفئات الوسطى وبعض العامة، خاصة الموجودين في المؤسسات العامة.
وكل يوم تُقرأ هذه الأزمة: “معاناة حادة من شرخ طائفي يقسم المجتمع التجاري إلى قسمين رئيسيين، لا يمكن القفز فوقه أو تحاشي إفرازاته السلبية. هذا الانقسام العمودي للمجتمع البحريني، الذي أحدثته تطورات تاريخية – ليس هنا مجال الخوض في تفاصيلها – ينبغي لمن يريد أن يحدد دور هذا القطاع أن يتوقف عنده، عوضاً عن القفز فوقه أو دفن رأسه في الرمال تحاشيا لرؤيته. هذا الجرح الطائفي النازف بغزارة، والمنهك لإمكانات هذا القطاع، يضع كل الخلافات الثانوية القائمة ضمن كل طائفة على حدة، في الصفوف الخلفية عند تحديد معالم التناقضات في ساحة العمل السياسي البحرينية”، (عبيدلي العبيدلي، الوسط، 13 أكتوبر، 2009).
“فالمشكلة التي تعانيها المملكة هي التخندق الطائفي ومن المؤسف أن يتحول مجلس النواب الذي من المفترض أن يكون بيتاً للشعب إلى كتل نيابية طائفية وكل كتلة تحارب هذا الوزير أو ذاك أو تدافع عنه لأسباب طائفية، ولكن ما هو خطير أن نجر الجمعيات السياسية وهي تجربة “وليدة” في البحرين إلى التخندق الطائفي”، (فاضل عباس، الأيام، 31 أكتوبر 2009).
وهكذا فإن الشرخ أخذ يتوسع ثم صار انقساماً عميقاً في الشعب وفي المؤسسات العامة وفي الحياة الاجتماعية وفي بقايا التنظيمات.
لكن المدى السياسي خلال العقود الثلاثة السابقة أوضح بجلاء ان هذه العودة للوراء مكلفة، وأخذت القطاعاتُ الرأسماليةُ الخاصة التحديثية تقوى، وأخذت هي التي تقودُ الحراكَ السياسي في عدةِ بلدان وخاصة في إيران كما نرى المشهد الراهن الساخن الآن، لظروف لا تتوافر بمثل هذا المستوى في بلدان أخرى.
إن عجز اليمين الديني عن مواكبة الحداثة والديمقراطية وصون الحرية الوطنية اصبح واضحا ويتسع في مجمل ظروف البلدان الإسلامية، بسبب العودة للماضي وتفكيك الصفوف وغياب التحليلات العميقة للمشكلات والقضايا، ومن هنا تنشأ مرحلةٌ جديدةٌ من الاصطفاف والتجميع للقوى السياسية والاجتماعية للتصدي للمهمات والمشكلات التي تفاقمت.
لقد تطورت قوى الرأسمالية الخاصة وغدت هي القوى الاقتصادية الفاعلة من أجل مجتمع ديمقراطي حديث، فاستعادت ما فقدته خلال عقود، وصارت هيئة الاتحاد الوطني المغيبة ضرورة جديدة ولكن من خلال تراكمات العقود التي تلت والأشكال السياسية الجديدة.
من الممكن تجميع خيوط القوى السياسية العلمانية المتفرقة المفتتة كافة لكي تكون جبهة موحدة، للعمل من أجل وقف التراجع للماضي وتوحيد الشعب وتطوير الحريات الديمقراطية لمستوى أعلى بعد زمن من التراكم والتعاون.
صحيفة اخبار الخليج
8 نوفمبر 2009