إعلان الأمين العام للأمم المتحدة بان كيمون بأنه أمر بتسريح 200 من مراقبي الانتخابات التابعين للأمم المتحدة الذين شاركوا في مراقبة الانتخابات الأفغانية في جولتها الأولى، وذلك بعد أن نجحت الضغوط الأمريكية والأوروبية في إقناع الرئيس الأفغاني حامد كرزاي بالتراجع عن اعتبار نفسه فائزاً بغالبية الأصوات الساحقة في الانتخابات أمام منافسه وزير الخارجية الأسبق وعضو تحالف الشمال عبدالله عبدالله الذي شارك في إطاحة حكم طالبان، والقبول بخوض جولة ثانية وحاسمة من الانتخابات قبل أن يعود ويعلن رفضه خوض الجولة الثانية احتجاجاً على إصرار كرزاي على الاحتفاظ برئيس اللجنة الانتخابية وطاقمه -بعد أن تحولت طبخة تعويم كرزاي إلى مضخة للأمريكيين والأوربيين المتورطين جميعاً في عملية تزوير الانتخابات.
وكما صار معروفاً أيضاً فإن الأمم المتحدة هي الأخرى متورطة في فضيحة التزوير لصالح الرئيس كرزاي، وهو ما فضحه أحد كبار مسؤولي الأمم المتحدة الذين أشرفوا على جولة الانتخابات الأولى والذي دفع ثمناً لذلك بإطاحته على يد الأمين العام بان كيمون من منصبه.
ولذلك يأتي قرار بان كيمون باستبدال 200 رئيس لجنة انتخابية في إطار عملية ‘استدارة رشيقة’ ترمي إلى رفع آثار تواطؤ أجهزة الأمم المتحدة في ‘عملية تعويم’ الرئيس كرزاي وذلك رغم ما علق بمصداقية بان كيمون من شكوك جراء إقالته للمسؤول الأممي الذي كشف فضيحة تورط الأمم المتحدة في عملية التزوير.
في الوقائع فإن نائب بعثة الأمم المتحدة المكلفة الإشراف على الانتخابات الأفغانية بيتر جالبريث (Peter Galbraith) اتهم علناً في مؤتمـر صحافي عقـده في كابول في الأسـبوع الأول من أكتوبر المنصرم، اتهم رئيسه، أي رئيس البعثة الأممية ‘كي إيدي’ (Kai Eide) بأنه أخفى أدلة دامغة على وجود تزوير واسع النطاق في الانتخابات الأفغانية، وأن هذا التزوير الضالعة فيه الأمم المتحدة قد جُيِّر لصالح الرئيس الأفغاني حامد كرزاي.
وبعد أيام قام أمين عام الأمم المتحدة الكوري الجنوبي بان كيمون بإقالة بيتر جالبريث من منصبه عقاباً له على ‘كشف المستور’.
وفي الثاني عشر من أكتوبر 2009 عقد ‘كي إيدي’ رئيس بعثة الأمم المتحدة المكلفة مراقبة سير الانتخابات الأفغانية، مؤتمراً صحافياً اضطرارياً لدفع هذه الاتهامات والشبهات عنه وعن المجموعة التي يأتمر بأمرها في المنظمة الدولية (UN). حيث اضطر للإقرار بوجود ‘تزوير ذي شأن’ (Significant fraud) في الانتخابات الأفغانية التي جرت في العشرين من أغسطس الماضي. مع التنويه هنا أنه استخدم مفردة ”Significant” قبالة عبارة ”Widespread fraud”، ‘أي تزوير واسع النطاق’ التي استخدمها نائبه المُقال بيتر جالبريث.
أما وقد انتهت لعبة التجاذبات التي سيطرت طوال الفترة التي أعقبت عملية الاقتراع على إعلان نتائجها، إلى إعلان الرئيس حامد كرزاي موافقته على خوض جولة إعادة لتحديد الفائز بينه وبين منافسه عبدالله عبدالله، فلا فضل للأمم المتحدة في ذلك إطلاقاً، فالفضل كل الفضل في إذعان الرئيس كرزاي وتوقفه عن اعتبار نفسه فائزاً في الجولة الأولى يعود إلى حلفائه الأمريكيين والأوروبيين الذي أُسقط في أيديهم نتيجة لفضيحة التزوير المدوية.
ومع ذلك إذا كان هنالك من فضل للأمم المتحدة في ذلك فهو ينسب حصراً إلى بيتر جالبريث الذي أقاله بان كيمون بعد أن فضح بشجاعة تورط الأمم المتحدة في عملية التزوير المدبرة.
ومن الطبيعي أن تصدم مثل هذه الوقائع أولئك الواقعيين المعولين على المنظمات الدولية وفي مقدمتها الأمم المتحدة، في التخفيف من غلواء كواسر النظام الدولي ومراكز قواه الاقتصادية النافذة. وهذه فرضية مفهومة تماماً على أية حال، فالأمم المتحدة و’بناتها’ المتفرعات عنها والمنظمات الدولية الأخرى القرينة والزميلة العاملة في مجالات تنموية مختلفة، هي القواسم المشتركة الوحيدة المتاحة أمام الأسرة الدولية للتعامل الجماعي برأفة وشهامة بشرية مع موارد الأرض وقاطنيها من البشر، وحمايتهما من بطش وبطر القوى الجشعة المتربصة بهما أبداً.
فإذا كانت هذه المنظمات هي الأخرى مخترقة من قبل لوبيات المال و’أغطيته السياسية’، فكيف للعالم أن يأمن على مستقبله، وكيف لأولئك ‘المتعشمين’ في ‘حيادية’ وجدية الأمم المتحدة وأربابها وربيباتها أن يضمنوا صدقيتها وحياديتها خصوصاً وأنها اليوم تتصدى لقضية عالمية كبرى في غاية الالتباس بقدر ما أنها في غاية الخطورة حسبما يذهب إلى ذلك الخبراء العالميون الذين انتدبتهم الأمم المتحدة لتشخيص وتقدير خطورتها، ونعني بذلك قضية تغير المناخ (Climate Change).
فما هي الضمانة بأن الحماسة غير العادية التي يظهرها أمينها العام ‘بان كيمون’ لقضية تغير المناخ، بالتمام والكمال على مقاس التوجهات والمواقف المعلنة للدول الصناعية المتقدمة، بينما لا يُظهر ذات الحماس و’النخوة’ حين يتعلق الأمر بمشكلة حالّة وواقعة فعلاً مثل مشكلة الجوع (هناك مليار جائع في العالم)، ومشكلة الفقر التي فاقمتها الأزمة المالية – الاقتصادية العالمية التي اندلعت في سبتمبر العام الماضي بإضافة 200 مليون إنسان إلى قائمة الذين يعيشون تحت خط الفقر الذي حددته الأمم المتحدة نفسها؟!
وحين نأتي للناحية العملية، أي لآليات وطبيعة عمل المنظمة الدولية سنجد أن الأمم المتحدة هي مجلس الأمن الذي تسيطر عليه القوى العظمى وتحديداً القوى الغربية الثلاث: الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا التي تتمتع بحق الفيتو إضافة إلى روسيا والصين، تاركين الجمعية العامة ‘لجمهرة’ الدول النامية لاستخدام منبرها لإلقاء خطبهم الوعظية والبكائية مرة كل سنة، فيما لايزال الغربيون يختصون أنفسهم بالمراكز الهامة والحساسة في المنظمة ومؤسساتها المتفرعة.
ولذلك لسوف يبقى مطلب إصلاح الأمم المتحدة من وجهة نظر ومن زاوية مصالح الدول النامية التي تشكل الغالبية الساحقة للدول الأعضاء في المنظمة، مطلباً ملحاً يتعين طرحه وإبرازه من قبل قادة وكبار مسؤولي الدول النامية في كل المحافل الدولية التي تتوفر فيها الفرصة لإثارة موضوعه الذي يشكل أحد أهم عناصر عدم التوازن السائد في العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
صحيفة الوطن
7 نوفمبر 2009