في الفترة من نوفمبر 1962 ويناير 1963 أتى إلى أبوظبي والشارقة الباحث الدنماركي بول روفسنغ أولسن. في الإمارتين تسنى له مشاهدة عروض موسيقية شعبية. كانت تلك واحدة من زيارات عدة قام بها هذا الرجل خلال عشرين عاماً امتدت بين عام 1958 حتى عام 1978، لأقطار الخليج العربي منطلقاً من البحرين التي كانت تعمل فيها البعثة الدنماركية للتنقيب عن الآثار، وفي الإجمال قضى أولسن نحو سبعة شهور في المنطقة، نصفها كانت في البحرين التي منها أتى إلى الإمارات وسافر للكويت وعُمان أيضاً. وهيأت له تنقلاته بين أقطار الخليج ملاحظة تلك الفروق الدقيقة التي لا يلحظها سوى الباحث الرهيف المختص بين طريقة أداء الفنون الموسيقية في المنطقة، كما مكنته من دراسة المؤثرات الآتية من الثقافات المجاورة، خاصة الهندية والفارسية والأفريقية على الفنون وخاصة الموسيقى والغناء في الخليج، وكانت زيارة الإمارات بالذات قد أتاحت له الفرصة لعقد المقارنة بين رقصة “العيالة” ورقصة “العرضة” في البحرين، وكان لذلك وقعه الاثنوغرافي الخاص على نحو ما يعبر الدكتور عبدالله يتيم الباحث في الانثروبولوجيا. كان أولسن مولعاً بالموسيقى وبالبحث فيها، وآخر مسؤولية شغلها كانت رئاسته للمجلس العالمي للموسيقى التقليدية منذ عام 1977 حتى وفاته عام 1982، وتملكته الموسيقى ذات الأصول الثقافية غير الأوروبية وشغلته للدرجة التي جعلته يهجو مراراً ما يصفه بـ “عجرفة” الثقافة الغربية، داعياً إلى تقويض هذه العجرفة بالاستعانة بالوحي الشرقي والأفريقي. وهو يفسر انجذابه إلى الموسيقى في الشرق إلى ما يصفه بالاتصال المباشر وانعدام التغاير في الثقافات غير الأوروبية بين الموسيقى والموسيقي والمستمع، وكذلك إلى اللغة الموسيقية نفسها: حسيتها وعمقها وحدودها الدقيقة وحريتها في الارتجال وبساطتها الأخاذة وتعقيدها الطبيعي وشكليتها النغمية وطقوسها المنطوية على التكرار. في حصيلة ذلك، سيضع أولسن كتاباً مهماً عن “الموسيقى في البحرين” مع عنوان فرعي: “الموسيقى التقليدية في الخليج العربي”، ضمنه واحداً وأربعين مثلاً مسجلاً على أشرطة مدمجة توضح معظم الأنواع الموسيقية التي تعامل معها أولسن. مخطوطة الكتاب وضعت بالإنجليزية قبل وفاة الباحث بقليل وأودعت في متحف موسغارد الذي أدرك في العام 1998 قيمة هذه المخطوطة فأخذ الأذن من أرملته بتحريرها ونشرها، كما أعطيت البحرين أذن إصدار مجموعة من اسطوانات أولسن على أقراص مدمجة. وأصدرت مجلة “البحرين الثقافية” ترجمة للكتاب في العربية. فليمنغ هويلاند من متحف موسغارد في الدنمارك الذي قدم للكتاب، نقل عن مقالة كتبها أولسن عن “الغناء والرقص في الخليج العربي” هذه العبارة الجميلة، الموحية، الذكية: “من يسافر إلى الخليج العربي يلتقي بموسيقى أكثر نقاء.. أكثر بساطة، سوف يتمكن من تسجيل هذه الموسيقى، لكن لابد له أن يشعر بوخزٍ مؤلم في الوقت ذاته، فهو يعلم أنه إذا أدار تلك الأشرطة لأصدقائه الدنماركيين سيعجبون بالنقاء فيها، وسيهزون أكتافهم لا مبالين بالتكرار الرتيب في اللحن، لأنهم لن يتمكنوا من الإمساك بالمزاج البهيج الذي أزهر في الموسيقى التي يسمعونها. لكن وعلى الرغم من ذلك، تبقى المتعة البالغة هي الروح الحقيقية لكل أنواع الموسيقى هذه. فالغنــاء يجـــيء من الجســد، كل الجــسد وكل الروح”.
صحيفة الايام
7 نوفمبر 2009