المنشور

لا تصالح


 
ولد أمل دنقل في عام 1940 بقرية “القلعة” في صعيد مصر . 

كان والده عالماً من علماء الأزهر، حصل على “إجازة العالمية” عام 1940، فأطلق اسم “أمل” على مولوده الأول تيمناً بالنجاح الذي أدركه في ذلك العام . وكان يكتب الشعر العمودي، ويملك مكتبة ضخمة تضم كتب الفقه والشريعة والتفسير وذخائر التراث العربي، التي كانت المصدر الأول لثقافة الشاعر .  

فقد أمل دنقل والده وهو في العاشرة، فأصبح، وهو في هذا السن، مسؤولاً عن أمه وشقيقيه .

أنهى دراسته الثانوية بمدينة قنا، والتحق بكلية الآداب في القاهرة لكنه انقطع عن متابعة الدراسة منذ العام الأول ليعمل موظفاً، لكنه كان دائم “الفرار” من الوظيفة لينصرف إلى ” الشعر”. عرف بالتزامه القومي والوطني وقصيدته السياسية الرافضة.
 
أمل دنقل ليس كغيره من الشعراء، فهو المسكون دوماً بالأمل والخوف والكبرياء. في شعره شيء من التطلع إلى المستقبل بعينين تريان ما لا يراه الآخرون، وهذا هو ديدن الشعر، فهو يتطلع إلى المستقبل، مستشرقاً آفاقه، ومؤكداً رفض الواقع المستلب.

عرف القارىء العربي شعره من خلال ديوانه الأول “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” (1969) الذي جسد فيه إحساس الإنسان العربي بنكسة 1967 وأكد ارتباطه العميق بوعي القارىء ووجدانه. صدرت له ست مجموعات شعرية هي :

البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” – بيروت 1969 ،

تعليق على ما حدث” – بيروت 1971 ،

مقتل القمر” – بيروت 1974 ،

العهد الآتي” – بيروت 1975 ،

أقوال جديدة عن حرب البسوس” – القاهرة 1983 ،

أوراق الغرفة 8 ” – القاهرة 1983 .





أصيب امل دنقل بالسرطان وعانى منه لمدة تقرب من ثلاث سنوات وتتضح معاناته مع المرض في مجموعته “اوراق الغرفه 8″ وهو رقم غرفته في المعهد القومي للاورام والذي قضى فيه ما يقارب ال 4 سنوات ، وقد عبرت قصيدته السرير عن آخر لحظاته ومعاناته . لم يستطع المرض أن يوقف أمل دنقل عن الشعر حتى قال عنه احمد عبد المعطي حجازي ((انه صراع بين متكافئين ،الموت والشعر ” .

رحل امل دنقل عن دنيانا في 21 مايو عام 1983م لتنتهي معاناته مع كل شيء . 


 



 



لا تصالح


 


(1 )


لا تصالحْ !


.. ولو منحوك الذهب


أترى حين أفقأ عينيك


ثم أثبت جوهرتين مكانهما ..


هل ترى..؟


هي أشياء لا تشترى ..:


ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك،


حسُّكما – فجأةً – بالرجولةِ،


هذا الحياء الذي يكبت الشوق.. حين تعانقُهُ،


الصمتُ – مبتسمين – لتأنيب أمكما ..


وكأنكما


ما تزالان طفلين !


تلك الطمأنينة الأبدية بينكما :


أنَّ سيفانِ سيفَكَ ..


صوتانِ صوتَكَ


أنك إن متَّ :


للبيت ربٌّ


وللطفل أبْ


هل يصير دمي – بين عينيك – ماءً؟


أتنسى ردائي الملطَّخَ بالدماء ..


تلبس – فوق دمائي- ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟


إنها الحربُ !


قد تثقل القلبَ ..


لكن خلفك عار العرب


لا تصالحْ ..


ولا تتوخَّ الهرب !


(2)


لا تصالح على الدم.. حتى بدم !


لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ


أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟


أقلب الغريب كقلب أخيك؟ !


أعيناه عينا أخيك؟ !


وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك


بيدٍ سيفها أثْكَلك؟


سيقولون :


جئناك كي تحقن الدم ..


جئناك. كن – يا أمير- الحكم


سيقولون :


ها نحن أبناء عم .


قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك


واغرس السيفَ في جبهة الصحراء


إلى أن يجيب العدم


إنني كنت لك


فارسًا،


وأخًا،


وأبًا،


ومَلِك !


(3)


لا تصالح ..


ولو حرمتك الرقاد


صرخاتُ الندامة


وتذكَّر ..




( إذا لان قلبك للنسوة اللابسات السواد ولأطفالهن الذين تخاصمهم الابتسامة )


أن بنتَ أخيك “اليمامة ”


زهرةٌ تتسربل – في سنوات الصبا –


بثياب الحداد


كنتُ، إن عدتُ :


تعدو على دَرَجِ القصر،


تمسك ساقيَّ عند نزولي ..


فأرفعها -وهي ضاحكةٌ –


فوق ظهر الجواد


ها هي الآن.. صامتةٌ


حرمتها يدُ الغدر :


من كلمات أبيها،


ارتداءِ الثياب الجديدةِ


من أن يكون لها – ذات يوم – أخٌ !


من أبٍ يتبسَّم في عرسها ..


وتعود إليه إذا الزوجُ أغضبها ..


وإذا زارها.. يتسابق أحفادُه نحو أحضانه،


لينالوا الهدايا ..


ويلهوا بلحيته ( وهو مستسلمٌ )


ويشدُّوا العمامة ..


لا تصالح !


فما ذنب تلك اليمامة


لترى العشَّ محترقًا.. فجأةً،


وهي تجلس فوق الرماد؟ !


(4)


لا تصالح


ولو توَّجوك بتاج الإمارة


كيف تخطو على جثة ابن أبيكَ..؟


وكيف تصير المليكَ ..


على أوجهِ البهجة المستعارة؟


كيف تنظر في يد من صافحوك ..


فلا تبصر الدم ..


في كل كف؟


إن سهمًا أتاني من الخلف ..


سوف يجيئك من ألف خلف


فالدم – الآن – صار وسامًا وشارة


لا تصالح،


ولو توَّجوك بتاج الإمارة


إن عرشَك: سيفٌ


وسيفك: زيفٌ


إذا لم تزنْ – بذؤابته – لحظاتِ الشرف


واستطبت – الترف


(5)


لا تصالح


ولو قال من مال عند الصدامْ


“.. ما بنا طاقة لامتشاق الحسام ..”


عندما يملأ الحق قلبك :


تندلع النار إن تتنفَّسْ


ولسانُ الخيانة يخرس


لا تصالح


ولو قيل ما قيل من كلمات السلام


كيف تستنشق الرئتان النسيم المدنَّس؟


كيف تنظر في عيني امرأة ..


أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها؟


كيف تصبح فارسها في الغرام؟


كيف ترجو غدًا.. لوليد ينام


– كيف تحلم أو تتغنى بمستقبلٍ لغلام


وهو يكبر – بين يديك – بقلب مُنكَّس؟


لا تصالح


ولا تقتسم مع من قتلوك الطعام


وارْوِ قلبك بالدم ..


واروِ التراب المقدَّس ..


واروِ أسلافَكَ الراقدين ..


إلى أن تردَّ عليك العظام !


(6)


لا تصالح


ولو ناشدتك القبيلة


باسم حزن “الجليلة ”


أن تسوق الدهاءَ


وتُبدي – لمن قصدوك – القبول


سيقولون :


ها أنت تطلب ثأرًا يطول


فخذ – الآن – ما تستطيع :


قليلاً من الحق ..


في هذه السنوات القليلة


إنه ليس ثأرك وحدك،


لكنه ثأر جيلٍ فجيل


وغدًا ..


سوف يولد من يلبس الدرع كاملةً،


يوقد النار شاملةً،


يطلب الثأرَ،


يستولد الحقَّ،


من أَضْلُع المستحيل


لا تصالح


ولو قيل إن التصالح حيلة


إنه الثأرُ


تبهتُ شعلته في الضلوع ..


إذا ما توالت عليها الفصول ..


ثم تبقى يد العار مرسومة ( بأصابعها الخمس )


فوق الجباهِ الذليلة !


(7)


لا تصالحْ، ولو حذَّرتْك النجوم


ورمى لك كهَّانُها بالنبأ ..


كنت أغفر لو أنني متُّ ..


ما بين خيط الصواب وخيط الخطأ .


لم أكن غازيًا،


لم أكن أتسلل قرب مضاربهم


لم أمد يدًا لثمار الكروم


لم أمد يدًا لثمار الكروم


أرض بستانِهم لم أطأ


لم يصح قاتلي بي: “انتبه “!


كان يمشي معي ..


ثم صافحني ..


ثم سار قليلاً


ولكنه في الغصون اختبأ !


فجأةً :


ثقبتني قشعريرة بين ضلعين ..


واهتزَّ قلبي – كفقاعة – وانفثأ !


وتحاملتُ، حتى احتملت على ساعديَّ


فرأيتُ: ابن عمي الزنيم


واقفًا يتشفَّى بوجه لئيم


لم يكن في يدي حربةٌ


أو سلاح قديم،


لم يكن غير غيظي الذي يتشكَّى الظمأ


(8)


لا تصالحُ ..


إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرة :


النجوم.. لميقاتها


والطيور.. لأصواتها


والرمال.. لذراتها


والقتيل لطفلته الناظرة


كل شيء تحطم في لحظة عابرة :


الصبا – بهجةُ الأهل –

صوتُ الحصان – التعرفُ بالضيف –
همهمةُ القلب حين يرى برعماً في الحديقة يذوي –
الصلاةُ لكي ينزل المطر الموسميُّ –
مراوغة القلب حين يرى طائر الموتِ


وهو يرفرف فوق المبارزة الكاسرة


كلُّ شيءٍ تحطَّم في نزوةٍ فاجرة


والذي اغتالني: ليس ربًا ..


ليقتلني بمشيئته


ليس أنبل مني.. ليقتلني بسكينته


ليس أمهر مني.. ليقتلني باستدارتِهِ الماكرة


لا تصالحْ


فما الصلح إلا معاهدةٌ بين ندَّينْ ..


( في شرف القلب )


لا تُنتقَصْ


والذي اغتالني مَحضُ لصْ


سرق الأرض من بين عينيَّ


والصمت يطلقُ ضحكته الساخرة !


(9)


لا تصالح


ولو وقفت ضد سيفك كل الشيوخ


والرجال التي ملأتها الشروخ


هؤلاء الذين تدلت عمائمهم فوق أعينهم


وسيوفهم العربية قد نسيت سنوات الشموخ


لا تصالح


فليس سوى أن تريد


أنت فارسُ هذا الزمان الوحيد


وسواك.. المسوخ !


(10)


لا تصالحْ


لا تصالحْ