المنشور

التجنيس السياسي… فليُسمع صوت الوطن!


رفعت الجمعيات السياسية الست عريضتها النخبوية المناهضة لسياسات التجنيس السياسي  إلى جلالة الملك عبر إرسالها بالبريد المسجل في التاسع عشر من شهر أكتوبر الماضي، بعد أن تعذر على ممثلي الجمعيات الالتقاء بجلالته لتقديمها لشرح مخاوف الناس والوطن، وهي ليست بخافية على جلالته، نظرا لما مثلته تلك السياسات على مدى أكثر من ثمان سنوات مضت من قلق وحالات احتقان مجتمعية ظهرت للسطح بعض مخاطرها الأمنية والاقتصادية التي لا زالت تتوعدنا بما هو أسوأ في القادم من السنين إذا ما استمر طوفان التجنيس، وما يعنيه من تهديد لهويتنا الوطنية التي تؤكد كافة الشواهد والتداعيات أنها أصبحت أمام تحديات حقيقية جراء تلك السياسات التي اكتست طابعا ممنهجا وليس عشوائيا كما كان يقال سابقاً.  

 الجمعيات الست في مناشدتها تلك لخصت  بوضوح لب المشكلة التي  يؤلمنا حقا  القول أنها تجاوزت حدودها المحلية لتلقي بتبعاتها على العديد من دول جوارنا الخليجي، حيث تتورط  بعض العناصر من المجنسين الجدد في عمليات إرهابية وجرائم لا نعلم حتى اللحظة مدى اتساعها مستقبلا، خاصة إذا ما استمرت تلك السياسات، فإنها حتما ستفضي مع الوقت خلق واقع إقليمي جديد لا نستبعد أبدا أن يكون متوترا بفعل ما  سيحدثه من حالة عدم الثقة تجاه كل ما هو بحريني، مع دول تمثل بالنسبة لنا عمقاً جغرافياً واستراتيجياً ضمن منظومة دول مجلس التعاون الخليجي، خاصة وأن البعد الشعبي يظل حاضراً على الدوام في تلك العلاقات التاريخية القائمة على  الأخوة والجيرة والمصاهرة والوشائج التاريخية، بالإضافة إلى العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية بين دولنا.  

يمكننا فهم تلك المخاوف من خلال الخطوات التطمينية التي قام بها سعادة وزير الداخلية البحريني عندما أعلن وربما للمرة الأولى عن توجه البحرين لوضع ضوابط لمنح الجنسية  البحرينية معللا ذلك بالمستجدات السياسية والاقتصادية والأمنية، بما يتوافق مع ما دأبت قوى المعارضة السياسية التحذير منه لسنوات دون أن يتم الإصغاء لتحذيراتها المتكررة،  فالقضية  ذاتها طرحت مرارا على مجلس النواب في فصله التشريعي الأول وشكلت لجنة تحقيق حول التجنيس السياسي، طالب  تقريرها النهائي الذي تم رفعه للحكومة من بين ما طالب بضرورة وضع ضوابط منح الجنسية بحسب ما جاء في الدستور وفي قانون الجنسية البحريني الصادر منذ العام  1967،كما تكرر تداول القضية  في الفصل التشريعي الثاني وعلى المستوى الشعبي من خلال العديد من الفعاليات بغية وضع الحلول لها.

المسألة إذا ليست طارئة أو أن المعارضة لم تقم بدورها كما يجب، فقد سيّرت الكثير من المسيرات والإعتصامات والعرائض والندوات سواء بشكل جماعي أو حتى على مستوى  الجمعية السياسية الواحدة، كما أن حبر أقلام كوادر المعارضة السياسية لا زال جاريا محذرا من مخاطر التجنيس على كل المستويات، لكن السمة الغالبة في التعاطي الرسمي مع هذه القضية المقلقة هي التجاهل وعدم الإصغاء، حتى جاءت  تصريحات  وزير الداخلية الأخيرة  بعد ما جرى من تداعيات في دول الجوار، بالدعوة لوضع ضوابط لمنح الجنسية البحرينية بسبب ما أسماه بالمستجدات السياسية والاقتصادية والأمنية، وهو قول تعب الزمان ولم نتعب في ترديده والتحذير من عواقب تلك السياسات.

قوى المعارضة السياسية الممثلة في الجمعيات الست ومن خلال العريضة  النخبوية التي وقّع عليها زهاء 192 شخصية سياسية ووطنية ومثقفة،  ناشدت جلالة الملك بالوقف الفوري للتجنيس لحين الاتفاق على رؤية وطنية يتم التوافق  عليها بين مختلف مكونات المجتمع وقواه السياسية والمجتمعية تؤدي لصياغة قانون عصري يتناسب مع ظروف المملكة وإمكانياتها ومصالح أبناءها، وهي لذلك – أي القوى السياسية -  تمد يدها متطلعة  لمبادرة شجاعة لوقف عملية التجنيس القائمة مؤملة أن يطوى هذا الملف بتوافق يبني الوطن ويعزز الثقة بين السلطة والمجتمع. 

 يهمنا أن نذّكر هنا أن مبادر ة الحوار الوطني  التي  أطلقها المنبر الديمقراطي التقدمي منذ أشهر قليلة كانت قد اقترحت  حوارا وطنيا مسئولا وصبورا لمناقشة مختلف القضايا والملفات العالقة التي من بينها ملف التجنيس السياسي باعتباره ملفا يبعث على انفصام عرى الثقة بين القيادة والشعب ويؤسس لحالة من عدم الاطمئنان في العلاقة بين الطرفين، في ظل المخاوف المتزايدة من  وجود مخططات ونهج يؤسس لتقسيم شعب البحرين بين أقلية وأغلبية وعلى أسس طائفية ومذهبية بغيضة  كثيرا ما حذرنا منها ومن تبعاتها.  

فالتجنيس السياسي  في البحرين لم يعد يحتاج منا إلى الكثير لكي يتم التحقق منه فهو موجود في كل شبر من هذا الوطن، وقد أصبح عامل استنزاف حقيقي للكثير من الموارد والخدمات التي نلمس كل يوم حجم الضغط المهول عليها جراء القفزة  السكانية الرهيبة التي فاجأت  الجميع بعد إيضاح الحكومة المقدم للبرلمان في سبتمبر/أيلول  2007 بأن عدد السكان قد بلغ أكثر قليلا من المليون نسمة بعد أن كان عدد السكان الرسمي قبل اقل  من سنة من ذلك التاريخ  يبلغ 743 ألف نسمةً فقط وبنسبة فاقت 5و8%، وببساطة تعزو الحكومة تلك الزيادة إلى الأعداد المتزايدة من العمالة الأجنبية  بسبب المشاريع التنموية!! 

 لن نعيد  طرح المزيد من الحقائق حول ما أحدثه التجنيس من تداعيات أمنية واقتصادية واجتماعية فهي كثيرة ومرئية من قبل الجميع، وها هي  معدلات الجريمة ونوعيتها تتزايد بشكل غير مسبوق، فيما تعجز الحكومة عن دعم مشاريع الخدمات الأساسية من إسكان وتعليم وصحة وكهرباء وماء وغيرها، فقد قلصت موازنة المشاريع كثيرا لصالح تضخم ميزانيات الدفاع والأمن وبشكل خاص الباب الأول (باب الأجور والرواتب)، علما بأن الغالبية العظمى من المجنسين يوظفون بكثافة في تلك الوزارتين.  وللتغلب على شح الميزانيات، يتم الإيعاز الرسمي باللجوء نحو الاقتراض من الداخل والخارج وفي ذلك زيادة لحجم الدين العام الذي بدوره يرهق كاهل الدولة  بزيادة خدمة الدين  التي لا شك أنها ستنعكس سلبا على تعطيل العديد من المشاريع الحيوية المستقبلية والحالية، كما يحدث للمدينة الشمالية الموعودة وغيرها من المشاريع  الحيوية الأخرى.

معضلة التجنيس ليست عصية على الحل ولن يعيقنا كقوى سياسية رفض استلام عرائض المعارضة المطالبة بإيجاد حلول لها، من أجل التسليم بمخاطر التجنيس واعتباره أمرا اعتياديا يحدث في كل الدول كما يذهب إلى ذلك باستمرار الخطاب الرسمي، فالتجنيس  السياسي وبالرغم من انفلاته  من دون قيود، يبقى أمر يمكن السيطرة عليه وضبطه إذا وضعنا مستقبل الوطن أمامنا  لنحميه بحرص ومحبة، فمعضلة التجنيس تحتاج  فقط إلى قرارات شجاعة سنظل ننتظرها ونعمل  بإصرار على سرعة تحقيقها بكل الوسائل السلمية المتاحة التي كفلها الدستور، ومعنا في ذلك كل شرفاء هذا الوطن من الغيورين على مستقبله ومصالح أبناءه، ونعرف جيدا أن دربنا   الوعر هذا ليس مفروشا بالورود لكنه صوت الوطن الذي نحمل أمانة الدفاع عن مصالحه والذي آن الأوان له بأن يسمع. 


 

نشرة التقدمي نوفمبر 2009