عرضنا وبصورة مكثفة مرحلة بزوغ فجر الأسرة وغرس الثمرة ومن ثم قطافها المتواضع في فترة لاحقة، ودخولها معركة الإبداع أولا ثم الدخول في معركة الحياة بسلاح ذلك الإبداع، وقدرة الأسرة على مواجهة المصاعب في بنية وفضاء ثقافي وسياسي اتسم بالحصار والخنق، بل ودخلت الأسرة الحقبة السوداء كما دخلها المجتمع مع قانون امن الدولة واستشهاد الشاعر العويناتي في عمره الإبداعي المبكر فخسرت الساحة الثقافية صوتا منتظرا. ومنذ الثمانينات حتى التسعينات، شهد العقد نتاجات جديدة وكثيفة، فانتقل القاص من تجربته في القصة القصيرة إلى المشروع الروائي، كما انتقل الشعر (التفعيلة) نحو عالم جديد من الحداثة والإبداع، حيث باتت الأسرة تشهد أمامها غيوماً متطايرة، دون أن يتوقف الإبداع عن رفد الأسرة بين فترة وأخرى بأصوات جديدة شابة، هم جيل الثمانينات بعد أن سبقهم جيل السبعينات والستينات. ولكن مع كل تتالي وتنوع الأصوات هل يغيب مشروع البحث عن الخلاص والألم عن ذهن وروح الكتاب؟ هل يتوقف »المسيح الجماعي للأسرة« عن حمل صليبه وعذاباته الصغرى والكبرى؟ و لو نبشنا ونقبنا في المفردات لوجدنا أن الصوت المشترك للأسرة ظل واحدا بتنوعاته كما هي تنوعات فرقة الاوركسترا السيمفوني، فليس المهم من أي مدرسة ومنهج وفكر كاتب الأسرة، وإنما خطابه عن أي مضمون يتحدث؟ ذلك هو المهم، فقد باتت الإشارة والمجاز والدلالات جميعها موجهة، تدين العنف والقهر والاغتيال والتعذيب والحصار، تنادي وتوقظ الوطن الذي دخل مجددا في قفص كبير من الكبت والقسر والطوق الجماعي. وقد اشرنا في بحثنا عن »ظاهرة القمع في القصة البحرينية« بحديثنا عن التجارب المتباينة والمنسجمة في الرؤيا والمواقف والموضوعات وبتنوعات اللغة وتقنياتها ما بين القاصين من الرعيل الأول من جهة والقاصين اللاحقين من جهة أخرى -وكذلك الشعراء- تشكل القاسم المشترك في إحساساتهم ومعايشاتهم لكوابيس القمع والإرهاب وجامعهم الوحيد في معاناتهم العميقة وفي كراهيتهم الشديدة لكل أشكال القمع والكبت الممارس ضد الإنسان وحريته في التعبير. نظرة واحدة على نتاج الثمانينات للقاص خلف أحمد خلف في مجموعته »فيزنار / 1985« فرغم انشداد ذاكرة الكاتب لمرحلة 65 فإنها من الجانب الآخر تتواصل حتى بعد اغتيال الشاعر، فيتحايل علينا خلف احمد خلف باستخدام لوركا البعيد والمذبوح في قريته فيزنار، فهل بإمكاننا أن نجرده من ذاكرة حادثة الشاعر سعيد العويناتي؟ من ذاكرة قصة »الجزيرة« فهناك تقبع ذاته ويقبع أصدقاؤه وخاله وكل عزيز لديه، حين قال لنا “كيف يكون وهما وجهه الذي لا ينسى يطل عليهم بعينيه الواسعتين البراقتين وجبهته ذات الخطوط العديدة (المقصود جبهة القوى القومية في أحداث 65) التي قال عنها ذات مرة في لهجة ساخرة في ظاهرها: إنها تعني أن لي أرواحا عديدة«. ولم يستطع أمين صالح في قصته »انفعالات طفل محاصر / 1977 من مجموعة الفراشات (1977)« أن يلغي صليبه ويهرب بين أزقة الجليل، أو يصبح يهوذا ويخون المسيح أو حتى بطرس فيتنكر له، فقد ظل أمين أمينا لصداقته للشاعر حداد من جهة وكان أمينا ومنسجما مع إبداعه وفكره، فمن يا ترى صديقه؟ الذي “صرخ حين أخذوه في ليلة من ليالي أغسطس؟”. لن يحتاج نقاد المرحلة القادمة بتذكر شهر أغسطس وحملة أغسطس التي تم فيها إلغاء الحياة النيابية واعتقال العشرات. سنجد تلك المعزوفة المشتركة عند الأخوين عبدالقادر وأمين، ولكن صاحب استغاثات في العالم الوحشي (1979) يمنحنا بكل بساطة مفاتيحه من عناوينه ومن استحضار ذاكرة سجين قضى خمس سنوات يوثقها عبدالقادر بشكل صارخ حين كتب بشكل مكشوف السبت 23 أغسطس 1975، إلا انه يدخلنا في لعبة الزمن وتداعياته فنراها في بداية الثمانين (1980). هكذا بدت قصة القمر من مجموعة مساء البلورات/1985 مرحلة وسمت كل النتاجات بروح مسكونة في السجن الاغترابي الرمزي والسجن الجسدي الفعلي، ومثلما كان كتابها محاصرين وسجناء، فان الأسرة كانت سجينة معهم تقاوم وتحمل صليبها الأبدي. كان علينا نحن الثلاثة، الدكتور حسن مدن، حمده خميس وآخرين في الخارج عبء سياسي أهم من العبء الثقافي من حيث الأولويات، ومع ذلك كانت أرواحنا مشدودة بتلك الأسرة ومثقفيها، فالقوى الوطنية تبعث الدعوات والبرقيات والاستنكارات والمناشدات، فيما راح ملصق مجيد مرهون والحداد وأعمال أدباء الأسرة توزع وتنشر في المحافل الطلابية والدولية، وبذلك كنا من حيث نريد أو لا نريد نمارس هدف وضع البحرين على خارطة الدنيا، ففي النهاية ربح الوطن بتلك المشاغبات السياسية من قنوات الإبداع ومنابر الثقافة. كان على مجلة الفجر الفصلية هذا العبء في ظروف قاهرة، فلم ننجح بأكثر من إصدار ستة أعداد كان للثقافة البحرينية حصتها. وإذا ما كانت الشموع تحترق وتتلاشى، فان للضوء مساحة ومسافة ضوئية عظيمة، هكذا ستتواصل الأغاني والأصوات الأدبية البحرينية داخل وخارج الأسرة، فجميعها كان يصب في نهر واحد.
صحيفة الايام
3 نوفمبر 2009