ما ان تنفس الفلسطينيون الصعداء بانتهاء ضجة الملاسنات الحادة بين السلطة الفلسطينية في رام الله التي “تحكم” الضفة الغربية وحركة “حماس” التي “تحكم” قطاع غزة على خلفية ضلوع الأولى في دفع مجلس حقوق الإنسان الدولي إلى إرجاء البت في تقرير جولدستون، حتى فجر الرئيس الفلسطيني محمود عباس أزمة ثانية لا تقل خطورة عن الأزمة الأولى في سياق مسلسل طويل ممل وباعث على الاشمئزاز من الأزمات الصبيانية المتوالية المتصاعدة. والأزمة الجديدة تتمثل في انفراد “أبومازن” كرئيس مفترض لجمهورية فلسطين داخل معتقل الاحتلال الكبير الممتد على مساحتي الضفة والقطاع بإصدار مرسوم “جمهوري” بالدعوة إلى إجراء الانتخابات الرئاسية في يناير القادم، أي بعد شهرين ونيف فقط حتى لو لم تتحقق خلال هذه الفترة القصيرة المصالحة المستحيلة بين “فتح” و”السلطة” القابضة على السلطة داخل سجن الاحتلال الكبير في الضفة من جهة وبين حركة “حماس” القابضة على السلطة داخل سجن الاحتلال الكبير في قطاع غزة من جهة أخرى.
نحن هنا إذاً أمام فصل جديد للتفرج المؤسف على الملهاة – المهزلة الفريدة من نوعها التي لم تمر بها أي حركة تحرر وطني في تاريخ العالم المعاصر، بل لم يسبق لحركة التحرر الفلسطينية ذاتها أن مرت بها منذ انطلاقتها المسلحة في يناير 1965م.
ومع أن كلا الفريقين يبذل قصارى جهده لإقناع شعبه والشعوب العربية جمعاء والعالم بسلامة طويته ونياته من أجل تحقيق المصالحة الوطنية لتغليب التناقض والصراع مع محتلي وطنه على التناقض والصراع الداخليين، ملقيا كامل المسئولية على الطرف الآخر ومخليا كامل ساحته من المسئولية، فإنه من الواضح أشد الوضوح أن كلا الطرفين على حد سواء يتقاسم تقاسما متوازنا ومتعادلا المسئولية عن استمرار صراعهما الدامي المستمر الذي من نافلة القول إن عدوهما الصهيوني هو المستفيد الوحيد منه، بصرف النظر عن دوره ودسائسه الخبيثة في تأجيج الفرقة والخلاف بينهما.
وليس أدل على توظيف كلا الطرفين قضية ومأساة شعبه لخدمة مكوثه وانفراده بكرسي السلطة الموهومة لأطول فترة ممكنة داخل المعتقل الكبير لشعبه تحت الاحتلال عدم تورع كليهما عن لغة التخوين بأقذع الألفاظ لقذف الآخر بها، وعدم تواني كليهما عن التصعيد الجنوني وإضافة الشروط التعجيزية كلما لاح في الأفق سراب إتمام المصالحة المستحيلة الموهومة بين الإخوة الأعداء.
فما ان لاح هذا “السراب” بإتمام “المصالحة” المزعومة عشية صدور قرار مجلس حقوق الإنسان بإرجاء تقرير “جولدستون” حتى وجدت “حماس” ضالتها المنشودة في هذا القرار وما تكشف من دور مفضوح للسلطة بالدفع باتجاه عدم إصداره للتشهير بها وبرئيسها وإطلاق وصلة إعلامية جديدة من مسلسل الردح الممل للتشهير بالرئيس وسلطته في وأد التقرير الذي أخذت “حماس” تذرف على تأجيله دموع التماسيح أنهارا، وتقيم الدنيا ولا تقعدها متوعدة بدورها بالرد عليه بإرجاء تصديقها على اتفاق “المصالحة” عقابا للسلطة الفلسطينية ورئيسها لدورهما “الخياني” في إرجاء تقرير حقوق الإنسان، هي التي لطالما انتقدت وهاجمت هذا التقرير تحديدا لما يتضمنه من انتقاد لها في إطلاق صواريخ على بعض المستوطنات والمناطق السكنية الإسرائيلية القريبة من قطاع غزة، ناهيك عن عدم توانيها في كثير من الأحيان عن التعبير عن استخفافها بجدوى الأدوات والوسائل والأسلحة السلمية لمقاومة الاحتلال على اختلاف أشكالها من عصيان مدني، ووسائل وضغوط سياسية وثقافية ودبلوماسية متعددة.
وما هي سوى بضعة أيام معدودة من هذا الفصل الجديد من المأساة – الملهاة التي يتفرج عليها شعبهما وشعوبهما العربية وشرفاء العالم بقلوب تقطر دما وقرفا حتى أصدر رئيس جمهورية السلطة الفلسطينية محمود عباس فرمانه الرئاسي الجديد بإجراء الانتخابات الرئاسية ليس فقط داخل معتقل الضفة الغربية الكبير الذي يرأس سجناءه من أبناء شعبه المكبل داخل المعتقل المشترك تحت الاحتلال، بل يسري القرار على سجناء معتقل قطاع غزة الذي يرأس سجناءه الرئيس إسماعيل هنية. أما كيف ستتم مهزلة هذه المصالحة الموهومة في ظل قرار ينطوي على تدخل خارجي في شئون جمهورية هنية من قبل جمهورية عباس ومن ثم المساس بالسيادة “الوطنية” لجمهورية الأول في معسكر الاعتقال الكبير تحت الاحتلال بقطاع غزة فهذا ليس سوى طلسم من الطلاسم التي لا يستطيع فكها إلا صاحب الفرمان الجمهوري ذاته المتربع على عرش السلطة برام الله في جمهورية الضفة الغربية.
ولهذا فإن كلا الطرفين، بما أنهما متساويان في الحقوق والواجبات ومنتخبان بانتخابات حرة بكامل إرادة الشعب الفلسطيني الحر المستقل عن الاحتلال في الداخل أو الشتات لهما كامل الحق في أن يطعن كل منهما الآخر بافتقاده الأهلية الدستورية، إن في إجراء الانتخابات الرئاسية وإن في تعطيلها، فهل هنالك بعدئذ ملهاة ومهزلة أكثر من هاتين الملهاة والمهزلة اللتين تمر بهما القضية الفلسطينية على أيدي أبنائها أو على وجه الدقة على أيدي زعمائهم المتسلطين المتعطشين للسلطة المصادرين للقرار المستقل الحر لشعبهم وفصائله وقواه الوطنية والقوى المستقلة الأخرى؟
لعل المأساة الراهنة التي تمر بها القضية الفلسطينية أنها باتت مخطوفة مرتهنة في أيدي زعماء كلا الفصيلين المتناحرين “فتح” و”السلطة” من جهة، و”حماس” من جهة أخرى، على سلطة موهومة ألقت بها إليهما سلطة الاحتلال ليتقاتلا بشراسة عليها داخل معسكر الاعتقال الكبير المشترك.
فما كان يا ترى سيفعلان بحق بعضهما بعضا وبحق شعبهما من مذابح وكلاهما مازال تستبد به نزعة مريضة متأصلة من الشمولية والدكتاتورية المتشددة، لو وصل أي منهما حقا إلى الحكم في ظل دولة فلسطينية ولو شبه مستقلة أو شبه حرة؟
الله لا يري الشعب الفلسطيني ظرفا كهذا لكي لا نسمع عنه يترحم على عصر الاحتلال.
صحيفة اخبار الخليج
1 نوفمبر 2009