” لا يمكننا أن نغيّر الأخلاق والعقل بالإرشاد والوعظ مباشرة من غير أن نغيِّر الأحوال الإقتصاديّة والسياسية. إنّ الأخلاق تعني رغبات الفرد وميوله الفعّالة التي تجعله مستعداً دائماً للقيام بحماس ببعض الأعمال برغبة، كما تجعله في الوقت نفسه كارهاً بعض الأعمال الأخرى” جون ديويJohn Dewey) )١
إنّ موضوع التربيّة على المواطنيّة هو من المواضيع التي طُرحت في مجتمعاتنا العربيّة بصورة عامة منذ النصف الثاني من القرن العشرين وفي المجتمع البحريني منذ العام 1971 ويعود السبب في ذلك إلى عوامل متعددة أهمها، حركات الاستقلال وما تبعها من تطورات سياسيّة واجتماعيّة.
إنّ هدف التربيّة هو إعداد أبنائنا للتسلح بالقيم الوطنيّة والعلميّة ومواجهة التحديات والتطورات المتسارعة بعيداً عن الانعزاليّة والمذهبيّة… وذلك لبناء وطن يسوده التآلف والإخاء والتعاون والشعور الوطني، وهذه القيم المذكورة لم تعشها الأجيال السابقة قبل الاستقلال.
وسنورد بعض المفاهيم ذات الدلالة اللغويّة المتشابهة لفظاً والمختلفة معنى بحسب مدلولاتها، أو فيها لَبس من بعض الأمور الفلسفيّة أو المنطقيّة أو التربويّة منها: الوطنيّة، المواطنيّة، الوطن، المواطن. كذلك التربيّة المدنيّة، والتربيّة على المواطنيّة، والتربيّة الوطنيّة. ومفهوم المواطنيّة في اللغات الأجنبيّة ومرادفاتها في اللغة العربيّة.
مفهوم المواطنيّة
المواطنيّة مفهوم مشتق من تصور عيني هو المواطن. والتصورات العينيّة أسهل على الإدراك إجمالاً من التصورات المجردة.
وتحدد دائرة المعارف البريطانيّة المواطنيّة بأنّها “العلاقة القائمة بين المواطن كفرد والدولة وما تتضمنه هذه العلاقة من حقوق وواجبات. وغالباً ما ترتبط المواطنيّة بالجنسيّة”. (1) ولمصطلح المواطنيّة عدة معان مختلفة: ففي الاصطلاح القانوني والسياسي تدل على حالة المواطن من حيث إنّه عضو قائم في المجتمع السياسي أو الدولـة، وبالتالي له بعض الحقوق والمسؤوليات المحددة في القانون مثل الانتخاب، ومسؤوليّة دفع الضرائب وما إلى ذلك، فالمواطنيّة تعني أيضاً الحقوق السياسيّة للفرد مثل حقوق الاقتراع وتولي المناصب العامة… والمواطنيّة تقتضي بأن يكون الفرد الراشد متمتعاً بحقوقه المدنيّة ويعرف ما عليه من واجبات إزاء الدولة.
بات من الضروري التمييز بين نوعين من التوطّن:
النوع الأول
يصيب الفرد في علاقته الخاصة ببقعة أرض معيّنة، يرى النور فيها وينشأ ويترعرع في مدارجها أو ينتقل إليها ويستقر فيها، متفاعلاً مع الساكنين مثله فيها.
والنوع الثاني
يصيب الجماعة الشاملة المتميّزة التي ينتمي إليها الفرد، في علاقتها ببقعة أرض معيّنة تتفاعل معها، عَبر الأجيال: الموطن، والمواطنيّة لأنّ أساسها الوطن. والوطن بالنسبة إلى الجماعة هو تلك القطعة من الأرض التي تخصها من دون غيرها ويشعر أفرادها بالانتساب إليها من خلال انتمائهم إلى الجماعة نفسها… (وهذا ما يؤكده نصّار / في التربية والسياسة2000) في أنّ الموطن بالنسبة إلى الفرد هو مكان ولادته ونشأته أو مكان استقراره، ويشتمل على مستويات، من المنزل إلى الحي أوالقرية أو المدينة…
إنّ هذا التمييز ليس جامداً، أومطلقاً. إذ إنّ خصائص المواطنة ومستلزماتها تتداخل مع خصائص المواطنيّة ومستلزماتها. من هنا يتضح أنّ المواطن يمكن أن يكون المشارك في المُوطِن ويمكن أن يكون المشارك في الوطن. إلا أنّ المشاركة في الوطن أقوى وأعقد من المشاركة في المُوطِن، ولهذا يتغلب مفهوم المواطنيّة على مفهوم المُواطَنة، ويستوعبه، ويستعملان على الترادف، لكن مع ميل من المُواطَنة إلى الناحية الاجتماعيّة الجغرافيّة وميل المواطنيّة إلى الناحية الاجتماعيّة السياسية. فالوطن الذي يؤسس فكرة المواطن. وبالتالي فكرة المواطنيّة هو في حقيقته التامة الجماعة الوطنيّة التي تستكمل التعبير عن شخصيتها وإرادتها بالدولة الواحدة المستقلة. والمُوطِن هو في حقيقته التامة عضو فاعل في دولة وطنية. وهنا يحسن التمييز بين الوطنيّة والمواطنيّة لحسم الجدل القائم حولهما. فالوطنيّة ظاهرة نفسيّة اجتماعيّة مركبة، قوامها حبّ الوطن، أرضاً وأهلاً والسعي إلى خدمة مصالحه؛ أو بعبارة أخرى، ظاهرة نفسيّة فرديّة وجماعيّة، تدور على التعلق بالجماعة والوطن والأرض والتراث والاندماج في مصيرها. أما المواطنيّة فهي ظاهرة مركبة ولكن محورها هو الفرد من حيث هوعضو مشارك في الجماعة الوطنيّة وفي الدولة التي هي دولته. فالوطنيّة والمواطنيّة وجهان متباينان من وجوه الارتباط بالجماعة الوطنيّة ووجودها السياسي، الأول كثير التعقيد والثاني يتميز بطابعه السياسي الحقوقي.
إنّ حقوق المواطنين هي واجبات على الدولة وحقوق الدولة هي واجبات على المواطنين.
عندما تطرح مسألة «التربية على المواطنية»، يتخذ طرحها في المجتمع البحريني شكل التحدي الذي يكون أحياناً تربوياً وأحياناً أخرى سياسياً واجتماعياً، وفي جميع الحالات هي تحدٍ سياسي، فالتربيّة على المواطنيّة مثلاً، تتجاوز حدود التربيّة المدرسيّة ومؤسساتها كما تتعدى قدرة أية مؤسسة منفردة على مواجهتها.
فالتحدي التربوي نابع من تزايد الإحساس بالخصوصيات الدينيّة والثقافيّة ومن تراجع تحديات الدولة الوطنيّة، ومن إعادة النقاش في التميز بين الموضوعين التربوي والتعليمي. وهذا لم يكن مطروحًا قبل المشروع الإصلاحي السياسي في البحرين (1999-2001) حيث كانت مادة التربيّة على المواطنيّة لا تُدرَّس كما تدرَّس اليوم من خلال تخصيص حصة واحدة في الأسبوع، حيث كانت ضمن مادة التربيّة الإسلاميّة تارة أو المواد الإجتماعيّة تارة أخرى، ما يعني أنّ البحرين تُعتبر من الدول الساعية إلى التقدّم حضارياً والمتجهة نحو الديمقراطيّة من خلال هذا التوجه. وظهر إصرار على تأليف كتاب (التربيّة على المواطنيّة) وبُوشر بوضع المناهج التعليميّة الجديدة، وفي إقامة نوع من التوازن في المجالات الدينيّة والثقافيّة…إلخ
لقد كان كتاب التربية الوطنية قبل عام 1999 أوّل ما ظهر من كتب المناهج المطلوب توحيدها، ونظراً إلى الإشكاليات من النواحي الوطنيّة والديّنيّة والعلميّة، كانت هناك مواقف دقيقة في الموضوع الوطني تمَّ تجاوزها بكثرة الإستشهاد بالدستور وبالتنظيمات الدولية ومنظمات حقوق الإنسان والحريات والحقوق المدنيّة، لكنّ الدولة في الفكر والممارسة بدت دائماً على تباعد مع المجتمع المدني، كونها لم تطرح مباشرة في مناهجها ما يحتاجه هذا المجتمع من تعزيز القواسم المشتركة بين أبنائها.
إنّ هذا التحدي التربوي الذي يواجه طرح مسألة التربيّة على المواطنيّة قد يعود إلى ما يتميز به الواقع المجتمعي المذهبي في البحرين حيث يتم الطرح بصور مختلفة لغلبة المصالح الفئوية على المصالح العامة، والسبب في ذلك هو الرؤية الضيقة لمن يتناول هذا الطرح والوقوع في أسر الوضع المحلي والخوف من الإنفتاح الكامل على الآخر.
إذا نظرنا في الجانب التربوي المعاش، نجد أنّ مقاعد الدراسة التي كانت تجمع الطلاب من مختلف طوائف المجتمع البحريني، الإجتماعيّة، والمذهبيّة والإقتصاديّة… في تجربة غنيّة للعيش المشترك والتنشئة المشتركة تتراجع فيها هذه التجربة، وهناك شكوى دائمة من الميل الجارف إلى التمايز والإنعزال. وهذا بالطبع لا يمكن تحميله إلى مؤسسات التربيّة أو رجال الدين والثقافة، فالأمر في هذا المجال يبدو أكثر تعقيداً.
أما التحدي السياسي الوطني الذي يمكن أن يواجه طرح مسالة التربيّة على المواطنيّة فيتمثل في أنّه بعد أكثر من ثلاثة عقود من تعليق الحياة السياسية والنيابية ولغاية فترة ما قبل الإصلاح السياسي في عام1999 لم يتم بناء الوحدة الوطنية حيث بقيت هذه الأخيرة متأثرة بانشقاقات عميقة لعل أبرز دلالتها الوضع المتأزم بين الدولة ومختلف صور المعارضة السياسية، حيث عُلق العمل في المجلس النيابي وما صاحب ذلك من ضعف مركزية دولة المؤسسات لصالح مركزية الإختلافات المذهبية وإفرازاتها، ومن تعاظم مخاطر الولاءات الفردية الضيقة على حساب الولاء الوطني العام؛ إنّ سلطتها على أفرادها تفوق أحياناً سلطة الدولة عليهم وكان من الطبيعي ولاعتبارات تتصل بالطريقة التي تمت فيها إعادة بناء النظام السياسي أن يحصل الخلل في علاقة الدولة بمواطنيها، إما بسبب الأداء السياسي العام، وإما بسبب الموقع الذي احتله الإنتماء المذهبي في ترتيب أولويات الأفراد، وهذا الخلل غيّب الدولة في أحيان كثيرة عن تأدية دور المرجعية الضامنة للحقوق الفردية والجماعية وحال دون وعي الأفراد لواجباتهم تجاه الدولة كما حال دون ممارستهم لهذا الوعي عمليًا في المجتمع.
وهناك جانب آخر لا يقل أهمية عن مأزق العلاقة المتبادلة بين الدولة ومواطنيها ونعني به العلاقة بين المواطنين أنفسهم، فبعدما كان الرابط المشترك فيما بينهم تحقيق الإصلاح السياسي وتحقيق المطالب التي دعت إليها أغلب التوجهات الوطنية السابقة والحالية واستمرت تلك المطالب، السياسية والإصلاحية… وبمشاركة مختلف طوائف المجتمع البحريني، كان الرهان على مرحلة ما بعد الإصلاح في توحيد هذه المطالب وبالتوجه المجتمعي نفسه في ظل الإنفتاح السياسي الذي دعا إلى الإنفتاح على الآخر والسماح بالإختلاف لكن تحت سقف المصلحة الوطنية.
لكن هذا التوجه لم يلمسه البحرينيون وبقى هاجس الوحدة الوطنية قائماً عند كل استحقاق داخلي أو خارجي، ولم تستطع عملية البناء السياسي أن تشكل عنصراً ضامناً لوحدة المجتمع لأنّ النصوص القانونية ينبغي أن تترافق مع إرادة وطنية تحمي هذا المجتمع وتكون هذه الإرادة تعبيراً عن رأي المواطنين، بحيث يصبحون شركاء كاملين في المسؤولية الوطنية، ومدركين حقوقهم وواجباتهم ومسؤولين تجاه مجتمعهم ووطنهم.
ازاء هذا المأزق نتساءل، كيف السبيل إلى بناء المواطنيّة الصحيحة حتى يصبح الفرد البحريني أيُّ فرد شريكاً كاملاً فاعلاً في المجتمع وله دور في تَحَمُّلِ المسؤولية الوطنية؟ وما هي المخارج التي نتلمس من خلالها الطريق إلى بناء المواطنيّة؟ وهل في ظل الواقعين: التربوي والسياسي يمكن أن تتاح فرصة من شأنها تحقيق بناء المواطنية في البحرين؟
يبدو لنا أنّ قيم المواطنية وبخاصة منها قيمة الإنتماء إلى الوطن قد تكون، أكثر من أيِّ وسيلة أخرى، هي الوسيلة المتوافرة حالياً للدخول في مشروع بناء المواطنية الصحيحة.
مفهوم المواطنيّة
ينبغي التمييز هنا بين الأنظمة الديمقراطيّة وغير اليمقراطية، حيث تغيب حقوق الفرد… فالقانون هو الذي يحدد الحقوق والواجبات ويقتضي معاملة المواطن على قدم المساواة…الخ ، أي إننا نتكلم على دولة القانون والمؤسسات التي هي الحل. ففي البلدان الأوربية، هناك ضمانات قانونية لمنع تجاوز حقوق الفرد السياسية والمدنية والاجتماعية… ولتسهيل دلالة كلمة “مواطنية” ومعناها نقول: إنّ مفهوم التربية على المواطنية مشتقة من مفهوم المواطن، فكما نقول ” الأخوة مشتقة من كلمة (الأخ). ويعرّف نصار(١). المواطن بأنه الإنسان الذي يستقر في بقعة أرض معينة، وينتسب إليها”. فحقيقة المواطن تظهر في علاقته بأرض معينة، وعليه لا يسمى الساكن في بقعة أرض معينة مواطناً، إذا كان سكنه فيها موقتاً وعابراً. أما الاستمرار في سكن بقعة أرض معينة، فينطوي على ارتباطه بها، وله فيها جملة مصالح مادية ومعنوية. ولما كان الإنسان بطبعه اجتماعياً، فإنّ مفهوم المواطن ينطوي على مفهوم المعية، أي يسكن مع مجموعة من جنسه في الأرض نفسها وينتسب إليها. وهكذا نرى الخلط بين البعد الجغرافي والبعد الاجتماعي في حقيقة المواطن.
فالوطن الذي يؤسس فكرة المواطن. وبالتالي فكرة المواطنيّة هو في حقيقته التامة الجماعة الوطنيّة التي تستكمل التعبير عن شخصيتها وإرادتها بالدولة الواحدة المستقلة. والموطن هو في حقيقته التامة عضو فاعل في دولة وطنية”.(١) وهنا يحسن التمييز بين الوطنيّة والمواطنيّة لحسم الجدل القائم حولهما. فالوطنيّة “ظاهرة نفسيّة اجتماعيّة مركبة، قوامها حبّ الوطن، أرضاً وأهلاً والسعي إلى خدمة مصالحه؛” أو بعبارة أخرى، ظاهرة نفسيّة فرديّة وجماعيّة، تدور على التعلق بالجماعة والوطن والأرض والتراث والاندماج في مصيرها”. أما المواطنيّة فهي ظاهرة مركبة ولكن محورها هو الفرد من حيث هو عضو مشارك في الجماعة الوطنيّة وفي الدولة التي هي دولته. فالوطنيّة والمواطنيّة وجهان متباينان من وجوه الارتباط بالجماعة الوطنيّة ووجودها السياسي الأول كثير التعقيد والثاني يتميز بطابعه السياسي الحقوقي”.(٢)
إنّ حقوق المواطنين هي واجبات على الدولة وحقوق الدولة هي واجبات على المواطنين”. وعلى هذا الأساس، تقوم بين الوطنيّة والمواطنيّة جدليّة دقيقة، لا علاقة لها بجدليّة التناقض. إنها جدليّة تبادليّة حميمة يزداد غناها وترتفع حرارتها بقدر ما يتطابق الوطن الجغرافي والوطن السياسي في وحدة الجماعة الوطنيّة. ويمكن إدراك شيء من تلك الجدليّة من خلال التمييز بين التربيّة الوطنيّة والتربيّة على المواطنيّة. فالتربيّة الوطنيّة هي التربيّة التي تعنى بتنمية الشعور الوطني وحب الوطن والاعتزاز به، وبتغذية الولاء في نفوس أفراد الجماعة الوطنيّة وفئاتها. ولكنها في الواقع تحمل بالإضافة إلى هذا المعنى الضيق، معنى واسعاً شاملاً، حيث تدل على التربيّة التي تتم على مستوى الوطن، بإشراف الدولة الوطنيّة، حيث توجد، وتشتمل كل النشاطات التربويّة والتعليميّة، وتتفاعل مع ظروف الوطن وحاجاته وتراثه وتطلعاته وأنظمته؛ وتحمل معنى وسطاً، حيث تدل على مجموعة مواد ونشاطات تغذي الوعي الوطني و الالتزام الوطني والعمل الوطني بطبيعة مضمونها. أما التربيّة المواطنيّة، فإنّها جانب مما تشتمل عليه التربيّة بهذا المعنى الأخير. وموضوعها هو تشكيل المواطن وتنميته، إنطلاقاً من تصور فلسفي معيّن لماهية المواطن ومن واقع التجربة في حياة الجماعة الوطنيّة ووجودها السياسي. وبهذا المعنى، يمكن النظر إليها كركن أساسي في نظام التربيّة الوطنيّة العام. ولكن لا يمكننا في أيّ حال، ردّ أجزاء هذا النظام إليها. فلكل جزء من تلك الأجزاء قوامه أو موضوعه.
كذلك فإنّ المواطنيّة ” تعني حمل المسؤولية الفاعلة في بناء الوطن أو تطويره وتغييره بالطرائق المتاحة، وفق ما يرتئيه المواطن ويريده”.(١) لذا تولي الحكومات والمجتمعات موضوع المواطنة والمواطنيّة أهمية قصوى لما يعني ذلك من توفر قواسم مشتركة بين أفراد المجتمع الواحد من حيث الانتماء والهويّة والاتجاهات والسلوكيات. فبقدر ما يتوفر توافق بين هؤلاء الأفراد حول هذه المفاهيم يتأمن للدولة استقرار مجتمعي وسياسي وأمني”. ما نخلص إليه إنّ المواطنيّة ببساطة تعني استقرار مجموعة، تجمع بين أفرادها روابط وتنتظم ضمن إطار سياسي على بقعة معيّنة من الأرض اتخذتها أو اعتبرتها ملكاً لها.
وبما أنّ طبيعة النشاط البشري في تطور نحو الأفضل، فإنّ مفهوم توطّن مجموعة على أرض ما وجعلها وطناً لها، يؤدى إلى تنظيم عمل أفراد هذه المجموعة ضمن أُطر قانونية ليعرف كل امرئ حقوقه وواجباته.
وقد عرّف إيرل رووغ (Earl Rugg )(2) المواطنيّة التي تعني ” أن يكون الفرد حرّاً، وعليه مسؤوليات وواجبات، وله حقوق”. والمواطنيّة في اللغة مشتقة من الوطن أي موطن الإنسان، ويقال: أوطن الأرض ووَطِنَها أيّ اتخذها وَطَناً(٣).
فالمواطنيّة هنا تعني في إطارها الأشمل علاقة الفرد العضويّة بالمجموعة التي يعيش ضمنها وبالمجموعات الأخرى التي يحتك بها وعلاقته بحكومة بلده ومؤسساتها. وهذا الفرد الذي تدور حوله تعريفات المواطنيّة هو المواطن الذي غالباً ما نضيف إليه صفة “المسؤول”. إنّ تعريفه لا يتم بصورة مطلقة بل يختلف من بلد لآخر استناداً إلى نوع النظام السياسي والاقتصادي السائد.
فالمواطنيّة هي انتماء إلى تراب الوطن. والذين ينتمون إلى هذا التراب هم مواطنون لهم حقوق وعليهم واجبات. إنّها رابطة ترابيّة “جغرافية” نفعيّة لأنها تقوى بمقدار ما يتحقق نفع لشركاء التراب الواحد. و كما أشرنا، إنّ لفظة المواطنيّة مشتقة من الوطن الذي يضم أبناءه بلا استثناء، فلا بُدّ والحالة هذه من الربط بين المواطنيّة والوطن بالتزام المواطن بكل نواحي حياته بهذه الرابطة المقدسة. والإنسان في هذا المقام، تقوى مواطَنَتَه بكل ما يوجد حوله فوق تراب وطنِه من مخلوقات وخبرات. إنّ المواطنيّة تقود إلى الوعي الاجتماعي السياسي والمشاركة في بناء المجتمع ونهضته من خلال استعدادات كل مواطن وقدراته الخاصة.
وتقضي المواطنيّة الابتعاد عن الأنانيّة والاهتمام بالصالح العام للوطن والعمل من أجل نهضته وتقدمه ومن خلال الانجازات الناجحة في ميادين الحياة المتنوعة التي تُنقل المواطن من وضعية المستَهلِك إلى وضعية المنتج، وذلك للوصول به إلى مرحلة حضاريّة متقدمة أو ما يطلق عليها “المدنيّة” التي تتمثل في إحراز إبداعات في ميادين الحياة المتنوعة.
وجدير بالقول” إنّ فهم هذا المصطلح لا يرتبط بقائد أو سلطان أو حاكم متسلط، فلا نتصور وجود مواطنيّة من غير وجود دولة فيها دستور وفيها عدل… لذا حينما نقول: إنّها ترتبط بوطن وليس بشخص أو منصب أو سلطة إنما نعني عدم وجودها بالمعنى الحقيقي والملموس، وهي التي تعطي المواطن المنتمي إليها الإقامة، والحماية والحريّة والتعليم، والرعاية، والعناية، وكل الحقوق المطلوبة للمواطن. بمعنى آخر، تعطي للمواطن صفته الإنسانية، وهي أرقى الصفات المتواجدة على هذا الكون. أما من حيث وجود وطنيّة من غير وجود حريّة، فالوطني المخلص لوطنه، يستطيع انتزاع حريّته ولو بصورة نسبيّة ليعمل ما باستطاعته تحقيق ما يراه تقدماً لوطنه. فالحريّة لا تُوهَب ولا تُمنَح، بل تؤخذ بالإصرار والثبات على المبدأ ونحن نتفق مع القول بوجود وطنيّة من دون حريّة في بعض البلدان العربيّة. لكن بالمقابل توجد حريّة، وشفافية إلى جانب وجود العناصر الوطنيّة.
من هنا نعتبر المواطنيّة صفة إنسانيّة نبيلة في كل مجتمع إذا ما اتصفت بثوابت ومبادئ أساسيّة تصب في عِزة الوطن والحِفاظ على الحقوق المدنيّة والسياسيّة والاجتماعيّة.
وقد رأى جون ديوي”John Dewey”” إنّ المواطنيّة لا تعني أكثر أو أقل من القدرة على المشاركة في التجربة الحياتيّة أَخذاً وعطاء، وهي تشمل كل ما يجعل الفرد أكثر فائدة أو ذات قيمة للآخرين.
إنّ المواطنيّة تعطي الأفراد المعرفة والمهارة، وفهم الأدوار الاجتماعيّة الرئيسيّة والفرعيّة في المجتمع على المستويات المحليّة، والوطنيّة والإنسانيّة. كما تؤهل المواطنيّة النشء للمسؤوليّة، وتُعِرفه بحقوقه وواجباته الأخلاقيّة والسلوكيّة وتجعلهم مواطنين أكثر اعتماداً على أنفسهم، وتؤهلهم للقيام بالأدوار اللازمة من أجل بناء هويتهم الوطنيّة وانتمائهم الوطني”.(١)هذا الرأي، يؤكد كلامنا الذي أشرنا إليه ومفاده ضرورة وجود متنفس من الحريّة غير المطلقة.
وبما أنّ الولاء الحقيقي جزء من المواطنيّة، التي تقوم على توطيد الصلات والعواطف بين الفرد والجماعة. لذا فالولاء للوطن ليس كلمة مجردة وبعيدة عن الواقع المعاش، وإنّما هو إقـرار واعتراف بمفهوم الوطن والإخلاص له. فهل الولاء وحده يمنح الفرد صفة المواطن المخلص لوطنه؟ وهل إذا توافر في هذا المواطن ولاءٌ لكنّه في قرارة نفسه غير منتمٍ إلى هذه الأرض وأهلها، إنّما انتماؤه إلى جهة أخرى أو إلى فئة ما؟ فهل يعد هذا ولاءً؟ لذا نقول: إنّ الانتماء الوطني ليس مسألة بسيطة يمكن ذكرها عرضاً أو اختزالها في بضعة أسطر، بل إنّ الانتماء يعني حب المواطن لوطنه واستعداده للتضحية من أجل المحافظة عليه. فلا يعني الوطن بالضرورة الأرض فحسب بل هو الأرض والأهل والأصدقاء والآخرون والقيم والمبادئ التي تشدك إلى هذا المجتمع، وهو الكيان الذي يشمل الأرض التي نقيم عليها وتمنحنا خيراتها. والوطن هم الناس الذين نعيش معهم ونتفاعل معهم. وبالتالي، إنَّ الأوطان ضرورة إنسانيّة وحاجة حضاريّة. لذلك نرى أنّ الدول ذات الأنظمة الديمقراطيّة التي وعت أهميّة المواطنيّة قد عملت على تحسين المناهج الدراسيّة حتى يكتسب الطالب حبَّ الوطن فتنمو لديه الرغبة في التعبير عن هذا الحبِّ من خلال المشاركة في بناء الوطن والنهضة الاجتماعيّة… ما يعني أنّ الطالب لن يكتسب حبَّه للوطن من تلقاء تلقينه بعض الدروس الجافة التي تشتمل على التغني بأمجاد الوطن فحسب، بل إنّه فرد في هذا المجتمع يتأثر بمن حوله؛ الأسرة، الأصدقاء. التعبير عن هذا الحبِّ من خلال المشاركة الفعّالة في التنميّة الوطنيّة، والتعاون مع الآخرين وممارسة حقوقه وواجباته بشكل متوازن.
واستكمالاً للموضوع نعرض تفصيلاً لهذا المفهوم.
تناولنا في الصفحات السابقة مفهوم المواطنيّة، ونود هنا أن نعالج بالتفصيل مفهوم الوطن والوطنيّة والتربيّة المدنيّة وعلاقة ذلك بالتربيّة على المواطنيّة.
لقد تم تعريف الوطن كما جاء في لسان العرب لابن منظور، إنّ المواطنيّة مشتقة من الوطن أي موطن الإنسان، ويقال: أوطن الأرض ووَطِنَها أيّ اتخذها وَطَناً(٣) .
إنّ ما عرّفه ابن منظور في لسان العرب وما عرّفته غيرها من المعاجم اللغويّة لمعنى الوطن هو من حيث المفهوم اللغوي للكلمة، إذ إنّ هذه المعاجم ليست معنيّة بتوضيح المعاني التربويّة والحقوقيّة والسياسيّة…إلا في ما ندر، وبحسب الاختصاص.
لذا تتفق أغلب المعاجم على هذا التعريف، ويشير المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربيّة (1973) إنّ من الجذر اللغوي لكلمة “وطن”(واطنه) وواطن القوم أيّ عاش معهم في وطن واحد، ويشير إلى أنها (مستحدثة) (١). ما يدل على إنّ ابن منظور وغيره من أصحاب المعاجم اللغويّة يبحثون في بنيّة الكلمة، بصفة عامة. فاعتماد كلمة وطن في اللغة العربيّة تعبر وتنمّ عن الأرض التي وُلِدَ فيها الشخص، أو اختار أن يعيش فيها، وتعبر من ثم عن نوع من الهوية الأوليّة. وقد حصرنا بعض الآراء حول مفهوم الوطن وردت عبر الموقع الإلكتروني(1) بين بعض الكتاب من الوطن العربي. ” مفهوم المواطن لم يأخذ معنى واضحاً إلا عندما بدأت المجموعات البشريّة تستقرّ على قطعة جغرافيّة معيّنة سَمَّتها في ما بعد “مَوْطِناً “. “عندما تكرس شكل للسلطة على هذه البقعة، وعلى الذين عاشوا عليها، أصبح هناك ما يسمى ” الوطن”. ” إنّ السلطة على مجموعة معيّنة من الناس قد سبقت السلطة على الأرض التي استقرت عليها هذه المجموعة. “مفهوم الوطن هو مفهوم شائع وإن تعددت الأوطان، ولكن الوطن الحق هو وطن العشيرة والأجداد ومسقط الرأس الذي يعطي دائماً الإحساس بالانتماء الحقيقي والانجذاب والذوبان في عادته وتقاليده حتى الانصهار لإعطاء ثقافة منحدرة من تلك الأمكنة متوافقة مع بنية الكيان المتقوقع في نفس كل من أفراد تلك البؤرة المكانية…” أما فريحة فقد أضاف بـ ” إنّ الوطن لا يعني أن يكون له دين واحد، بل يكون له لغة واحدة وثقافة واحدة. فالثقافة هي التي توحِّد، وهي التي تَخلقَ وطناً واحداً. فعندما يبدع أديب أو فنان، فإنّ علم بلاده يرمز إليه وهو يرمز إلى بلاده”. فكما ” كان مفهوم الوطن يستند إلى جغرافيا مشتركة يعيش فوقها أقوام يشتركون في التاريخ واللغة والدين ويصنعون ثقافة واحدة لكن المعطى الراهن يعيد طرح هذا المفهوم ويلقي به في جدل النظام العولمي الذي يهدد بتجاوز فكرة الوطن إلى مفهوم التكتل الاقتصادي والمصلحة الضيقة…” (2) إذاً، فالوطن عند فريحة مرتبط بالاستقرار البشري، بمعنى لا نطلق لفظة وطن من غير وجود بشر.
أما (Rugg) فقد عرّف الوطن “بالأرض التي ينشأ عليها الإنسان ويتخذها مقراً له” (3) وعلى ذلك فإنّ الأرض التي تنشأ عليها جماعة ما وتتخذها مستقراً لها تُعتبر وطناً لتلك الجماعة، والوطن هو مكانك الذي تُنسب إليه، ويُحفظ حقُك فيه، وتشعر بالأمان على نفسك وأهلك ومالك.
من تلك الآراء يمكننا أن نقف على بعض الأمور المشتركة بينها:
أ- الوطن:
إنّ الوطن هو عبارة عن ” قطعة جغرافيّة واحدة، ومسقط رأس الفرد فيها، ويتكلم لغة واحدة…” لذا يمكننا القول: إنّ ارتباط الإنسان بوطنه وبلده مسألة مستقرة في النفوس فالوطن مسقط الرأس عادة ومحل التربيّة، على أرضه يحيا الفرد ومن خيراته يعيش وبالتالي يعمل فيها ويتبادل المنافع المعيشيّة مع غيره، لذا فمحبته والولاء له دائرة أوسع من دائرة محبة الأسرة.
أما تعرّيف (Rugg) فلم يخرج عما أشار إليه وعرَّفه فريحة. وعلى هذا بحسب ما ذكره “إنّ الوطن مكان ولادة الفرد واستقراره، وهذا ما نميل إليه، فكثير من أبناء المواطنين قد وُلِدوا في بلدان أخرى غير بلدان آبائهم وبالتالي، فموطنهم هو مكان ولادتهم. ومثل هذه الحالات موجودة في بلدنا، وتحاول المؤسسات التي تعني بحقوق الإنسان العمل على التوصل إلى اقناع الجهة المعنية للتوصل إلى حلول بمنح الجنسية لمثل هذه الفئات.
ما نخلص إليه، إنّ الوطن الأصلي هو مكان ولادة الإنسان ونشأته. وهنا يطرح التساؤل الآتي: هل إذا وُلِدَ الطفل في مكان خارج موطن أهله وحمل جنسية تلك الدولة التي وُلِدَ فيها فماذا يعني له وطن أهله الأصلي؟ هذه مواقف قد يراها أصحاب الأفكار المنغلقة قضية مصير، لكننا لا نرى تلك قضية مصيرية، حيث يمكن للإنسان أن يعيش حيثما يرغب إذا توافرت له الطرق القانونية لتلك الدولة. أما شعوره تجاه موطن أهله فهو في اعتقادنا الشعور نفسه الذي يكنه تجاه موطنه الذي ولد فيه واستقر فيه، فالقانون هنا مكلف بحماية هذا المواطن، هذا إذا كان هذا الفرد مخلصاً لموطن ولادته، فربما يقع بعض الأفراد في صراع نفسي بين موقفهم لموطن آبائهم وموطنهم هم، فالمحك هنا يكمن في مدى ولائهم لهذه الأرض التي ولدوا فيها وتربوا عليها. أما عن الميول والعواطف التي يتسم بها هذا الإنسان تجاه أهله، فلا يمكن لأحد أن يزيلها من وجدان هذا الفرد ما لم يبدأ هو بإزالتها، فهذه المواقف لا تقتصر على موطن أهله فقط، بل تصل في أحيان كثيرة إلى أن يقف الإنسان مع شعوب وأوطان غير أوطان أهله وأقاربه. وهذه القضية تحتاج إلى دراسة. أما ما يسمى بوطن الإقامة: ويسمى أيضاً بوطن السفر والوطن المستعار (الحادث)، وهو ما خرج المرء إليه بغية الإقامة فيه لمدة قد تقصر أو تطول.
ب- المواطن:
إنّ كلمة ” مواطن تعبير لم يظهر، إلا بعد الثورة الفرنسيّة سنة 1789م أما قبلها فالناس كانت تجمعات، وقبائل، ولم يكن التراب وسيلة من وسائل التوحد بين الناس، فيقال على سبيل المثال الشعوب الجرمانيّة، والشعوب العربيّة. أما هذا التعبير إذا أُطلق على الفرد فتعني أنّه عضو في دولة ما، له فيها ما لأيّ شخص من الحقوق والامتيازات التي يكفلها الدستور. وهناك فرق بين المواطنين والرعيّة والتابعين. فالمواطنون هم ” أبناء الوطن، أو هم الوطن” الذين يتمتعون فيه بكامل الحقوق الاجتماعيّة والمدنيّة والسياسيّة في ظل الدولة التي ترعى شؤونهم.
أما الرعايا فهم فئات من الناس وهم أتباع الملك أو السلطان أو الزعيم أو الإقطاعي. والفرد منهم عضو في عشيرة أو مجموعة يرتبط بها برباط قرابة الدم. أما التابعون فهم المقيمون في دولة تخضع لنظام الحماية والوصاية أو الانتداب. ما نريد الوصول إليه من هذه التعريفات حقوق المواطن وواجباته باعتباره غير خاضع لسلطة غير السلطة الرسمية التي يخضع لها المواطنون كافة بحسب الأنظمة والقوانين.
ج- الوطنيّة:
الوطنيّة عاطفة تنمو في قلب الإنسان منذ أن صار له منزلاً يقيم فيه، ومرعًى تسرح فيه مواشيه، البدو الرحل مثلاً، وأرضاً يزرعها، فتغلُّ له أضعاف ما يزرع. وطبيعي أن تكون الوطنيّة في بدايتها محليّة محدودة، فوطن الإنسان البدائي غير وطن المتحضر ووطن المتحضر في الأزمنة السابقة غير الوطن في يومنا هذا..
وعلى سبيل المثال كان المواطن اليوناني ينشأ في العصور القديمة على حب مدينته (أثينا أو إسبرطة) لا بلاد اليونان كلها. وتعتبر هذه الحالة في أيامنا غير مقبولة.
على أن هذه الوطنيّة المحلية التي استأثرت بها فئة صغيرة من الناس مالبثت أن خرجت عن إقليميتها وضمت عامة الناس وكلَّ المدن في الوطن الأكبر.
ما يعني أنّ الوطنيّة، هي ارتباط الفرد أو الجماعة بالأرض والتعلق بها، وحبّ أهلها والحنين إليها عند التغرُّب عنها والاستعداد للدفاع عنها ضد الأخطار التي تهددها. ما يثير التساؤل هل الوطنيّة هي المواطنيّة؟ وما العلاقة بين المفهومين؟ وإجابة عن هذا التساؤل نقول: إنّ المواطنيّة ظاهرة مركبة، ولكن محورها هو الفرد من حيث هو عضو مشارك في الجماعة وفي الدولة التي هي دولته. وفي قاموس علم الاجتماع تعني الموطنية 1995 (١). ” بأنّها مكانة أو علاقة اجتماعية تقوم بين فرد طبيعي ومجتمع سياسي (دولة) ومن خلال هذه العلاقة يقدِّم الطرف الأول (المواطن) الولاء، ويتولى الطرف الثاني الحماية، وتتحد هذه العلاقة بين الفرد والدولة عن طريق أنظمة الحكم القائمة” ومن منظور نفسي (2000). فالمواطنيّة ” هي الشعور بالانتماء إلى الوطن وإلى القيادة السياسية التي هي مصدر الإشباع للحاجات الأساسيّة وحماية الذات من الأخطار المصيريّة”(٢). ونضيف إلى هذا التعريف الأخير، شرط تطبيق العدالة في المعاملات بين أفراد المجتمع وبحسب القوانين التي يخضع لها الجميع ومن دون تميّز أو تفضيل فئة على أخرى، بذلك سيكون الإنتماء إلى الوطن أولاً، ولم نسمع عن انتماء إلى القيادة مهما علا شأنها وعدالتها، لكن يكون لها الولاء إذا عَدَلَتْ وأنصفت. ما يعني أنّ المواطنيّة تشير إلى العلاقة مع الأرض والبلد. والوطنيّة تشير إلى تنمية الشعور الوطني وحبّ الوطن والاعتزاز به وبتغذية الولاء الوطني في نفوس أفراد الجماعة الوطنيّة وفئاتها. لذلك استعملت كلمة المواطنيّة بمعناها البسيط الذي تعني أبناء هذا الوطن.
وبما أننا بصدد الحديث عن التربيّة على المواطنيّة ودلالات اشتقاقات هذه المفردة، فقد يخلط بعض الأفراد بين هذه التربيّة والتربيّة المدنيّة من حيث الأهداف والمفاهيم لكل منهما. فما هي التربيّة المدنيّة؟ وأين تتلاقى مع التربيّة على المواطنيّة وأين تتقاطع إن كان هناك من تقاطع؟
وللوقوف عند الحد الفاصل بين التربيّة على المواطنيّة والتربية المدنيّة حيث نعتقد أنّ الفروقات ليست كبيرة كما يبدو، فسنشير باختصار إلى التربيّة المدنيّة، ثم نكمل بقية ما بدأنا به حول المواطنيّة ومبادئ المواطنيّة.
لمحة تاريخيّة عن مفهوم المواطنيّة
اقترن مفهوم المواطنيّة بإقرار المساواة بين المواطنين، على حد توصيف «روبرت دال» Robert A. Dahl (2). والتعبير عن إقرار مبدأ المواطنيّة يكون بقبول حق ممارسة المشاركة بشكل جزئي أو كلي، أي المشاركة في الحقوق المدنيّة والاجتماعيّة والسياسيّة. وقبل أن يستقر مصطلح المواطنيّة، فقد ناضل الإنسان من أجل إعادة الاعتراف بكيانه وبحقه في الاستقلال والمشاركة في الحقوق.
مرّت المواطنية عبر التاريخ بمحطات كثيرة نما فيها مفهوم المواطنيّة حتى وصل إلى دلالته المعاصرة.
1- مفهوم المواطنيّة في العصور القديمة
إنّ أقرب معنى لمفهوم المواطنيّة هو ما توصلت إليه مدن الإغريق، حيث شكلت الممارسة الديمقراطيّة لأثينا أنموذجاً له.
وعلى الرغم من قصور مفهوم المواطنيّة الذي تم تطبيقه في أثينا، من حيث الفئات التي يشملها وعدم تغطيته لبعض الجوانب التي يتضمنها المفهوم المعاصر للمواطنيّة فإنّه فد نجح في تحقيق المساواة على قاعدة المواطنيّة بين الأفراد المتساويين، وذلك من حيث إقرار حقهم في المشاركة السياسية الفعّالة وصولاً إلى تداول السلطة وتولي المناصب العامة. وهذا ما يقرّب مفهوم المواطنيّة في أثينا من المفهوم المعاصر للمواطنيّة اليوم ويجعلنا نعتبره أساساً من أسسها.
وجدير بالذكر أنّ مسعى الإنسان إلى تحقيق العدل والمساواة، يعبر عن فطرة إنسانيّة – أقدم من عصر دولة المدنيّة- حالت أنظمة الحكم القائمة في ذاك الوقت كالحكومات الملكية وعوامل مجتمعيّة أخرى سادت تلك الحقبة وما زالت تحول دون الوصول إليه. لأنّ الجشع المدعوم بالقوة قد دفع القوي إلى استعباد الضعيف بأشكال مختلفة وبأعذار متعددة، وحيث إنّ سعي الإنسان المقهور إلى العدل والمساواة كمطلب إنسانيّ. فقد استمر الصراع عبر العصور من أجل توكيد الإنسان لذاته والمطالبة بحق الشراكة في اتخاذ القرارات وتحديد الخيارات.
من هنا، فإنّ تاريخ المواطنيّة وهو تاريخ مسعى الإنسان من أجل العدل والمساواة قد كان قبل أن يستقر مصطلح المواطنيّة أو ما يقاربه من معان في الأدبيات بزمن بعيد.
لقد ناضل الإنسان من أجل إعادة الاعتراف بكيانه وحقوقه. وتصاعد ذلك النضال وأخذ شكل الانتفاضات الاجتماعيّة منذ قيام الحكومات الزراعيّة في وادي الرافدين مروراً بحضارة سومر وآشور وبابل، وحضارات الصين والهند وفارس، وحضارات الفينيقيين والكنعانييـن والإغريق والرومان. وقد استجابت الحكومات الملكية التي سادت تلك الحقبة – بدرجات متفاوتة- لمطالب بعض الفئات التي تعتمد عليها مثل: النبلاء والكهنة والمحاربين، ومنحتها بعض الامتيازات، فصدرت القوانين التي تنظم الحياة وتحدد الواجبات وتبين الحقوق، وذلك من أجل تحقيق قَدْرٍ من الاستقرار والسلم الاجتماعي من خلال إقامة النظام وتحقيق قدر من المساواة أمام القانون بين من يعتبرهم النظام السياسي متساوين. وقد كان من بين أسباب انهيار الامبروطوريات وخلع ملوك، تجاهلهم متطلبات السلم الاجتماعي وإقصاؤهم الآخرين وعجزهم عن توخي الحكمة وإدراك قوة مطلب الشراكة في الطيبات والمشاركة في اتخاذ القرارات لدى الفئات التي يعتمدون عليها في استمرار السلطة أو القيام بالإنتاج.
2- العرب الأوائل و مفهوم المواطنية
” لعل الحياة القبليّة العربيّة التقليديّة وما نشأت عنها من حكومات – عندما يتعذر تحويل تلك الحكومات إلى حكم فردي مطلق – كانت أيضاً مثل التجارب السياسيّة الإغريقيّة والرومانيّة، وفرت قَدْرًا من المشاركة السياسيّة للمواطنين؛ الرجال الأحرار. ويعود ذالك إلى ما يتطلبه تماسك القبيلة وعلاقات القبائل المتحالفة من مشاركة في اتخاذ القرارات الجماعيّة الخاصة بهم. وقد كان أكثر ألقاب شيخ القبيلة استعمالاًً هو السيد ويتم اختياره بانتخاب حر بين الأفراد الذكور، وليس بالوراثة” (١).
3- إعادة اكتشاف مبدأ المواطنية في أوروبا
تراجع مبدأ المواطنيّة في الفكر السياسي بعامة طوال ما اصطلح على تسميته في أوروبا في العصور الوسطى التي امتدت من 300 إلى 1300 بعد الميلاد، وذلك بعد أن اندثرت التجارب الديمقراطيّة المحدودة في الحضارتين الإغريقيّة والرومانيّة من جهة ومن جهة أخرى بسبب توجه الحضارات السائدة آنذاك بما فيها الحضارة العربيّة الإسلاميّة الصاعدة إلى إقامة حكم ملكي مطلق غير مقيد. وبعد أن انجرف نظم الحكم تدريجياً في الدول الإسلاميّة إلى ملك عضوض بعد أن أصبح الحاكم بعد فترة فرداً مستَبِداً، الأمر الذي أدى في الغالب بالعرب والمسلمين – كما أدى بسائر الحضارات المعاصرة إلى نهضتهم مثل حضارات الهند والصين واليابان - إلى سد منافذ التطور السياسي، وأدى إلى العجز المجتمعي عن مواجهة أطماع الحكومات الأوروبيّة التي بدأت تنهض من سبات القرون الوسطى، وذلك عندما بدأت بوادر النهضة الأوروبيّة )٢( نتيجة اهتمام الفكر السياسي فيها بإعادة اكتشاف مبدأ المواطنيّة واتخاذه تدريجياً مرتكزاً لبناء الدولة القوميّة المتماسكة عبر الزمن، بصرف النظر عن حكامها، بإمكانية عملية، بفضل القبول الفكري والتقبل النفسي لمبدأ المواطنيّة الذي شكل حجر الزاوية للمذهب الديمقراطي في أوروبا الغربيّة. وتحولت الدول في دائرة الحضارة الغربيّة تدريجاً بمقتضى مراعاة مبدأ المواطنيّة إلى دول ديمقراطيّة.
ويعود تاريخ إبداع مبدأ المواطنيّة في أوروبا – بعد اكتشافه- إلى بداية ظهور الفكر السياسي العقلاني التجريبي، وتزايد تأثيره نتيجة حركات الإصلاح الديني وما تلاها من حركات النهضة والتنوير في الحياة السياسيّة. وقد استفاد هذا الفكر الجديد من الفكر السياسي الإغريقي والفكر القانوني الروماني، ومن مبادئ الإسلام ومن جهد العرب في نقل الفكر السياسي الإغريقي والمحافظة عليه ربما أكثر مما استفاد منه المسلمون أنفسهم.
وقام الفكر السياسي والقانوني الجديد في دائرة الحضارة الغربيّة، منذ القرن الثالث عشر حتى قيام الثورتين الأمريكيّة والفرنسيّة في القرن الثامن عشر، بصياغة مبادئ واستنباط مؤسسات وتطوير آليات وتوظيف أدوات حكم جديدة، أمكن بعد وضعها موضع التطبيق تدريجياً تأسيس وتنمية نظم حكم قوميّة مقيدة للسلطة من خلال حركات الإصلاح المصحوب بالانتفاضات الشعييّة إن أمكن، وإلا فمن خلال الثورات المؤسِسَة للديمقراطيّة مثل الثورة الأمريكيّة والثورة الفرنسيّة (١).
وجدير بالذكر أنّ عملية الانتقال التاريخيّة من الحكم المطلق إلى الحكم المقيد لم تكن عملية سهلة، بل كانت مخاضاً عسيراً قطعت فيه رؤوس الملـوك وسالت دماء الشعوب.
– كانت الثورة الفرنسيّة قد بدأت بالحريّة لكنّها طبقت الديكتاتوريّة لمدة 200 سنة، أي لما بعد الحرب العالميّة الثانيّة – ويعود الفضل في إنجاز ذلك التحول التاريخي إلى أنّ الناس في الحضارة الأوروبيّة “غيروا ما بأنفسهم” من رضا بالتبعيّة إلى إصرار على المشاركة الفعّالة التي تحقق مصالح الناس وتصون كرامتهم.
كما أنّ سراة القوم عندهم استطاعوا التوصل إلى قواسم مشتركة شكلت أهدافاً وطنيّة مشتركة لنضال شعوبهم، الأمر الذي سمح بضبط نظام الحكم وترشيده في دائرة الحضارة الغربيّة. وقد عمل القادة في بلدان أوروبا على إيجاد قواسم مشتركة تقوم على العدل والحريّة والإصلاح وهذا ما أدى إلى نهضة أوروبا.
4- المفهوم المعاصر للمواطنيّة
بهذا التحول الذي تم بفضل تضافر ثلاثة عوامل وتفاعلها هي: الدولة القوميّة، والمشاركة السياسيّة، وحكم القانون وتطور كل منها، انتقلت دائرة الحضارة الأوروبيّة من المفهوم التقليدي للمواطنيّة الذي استمد جذوره من الفكر السياسي الإغريقي والروماني وجاء تلبية لحاجة الدولة القوميّة الحديثة ونضال الشعب فيها إلى المفهوم المعاصر للمواطنيّة الذي يستند إلى فكر عصر النهضة والتنوير وطروحات حقوق الإنسان والمواطن، والدعوة لأن يكون الشعب مصدراً للسلطات. وبذلك ترسخ مبدأ المواطنيّة وأقر كحق ثابت في الحياة السياسيّة واتسع نطاق ممارسته تدريجياً باعتباره إحدى الركائز الأساسيّة للعمليّة الديمقراطيّة. وقد سبق أن أشرنا إلى هذا المفهوم، لغويّاً وتربويّاً وسياسيّاً. لكننا سنركز الآن على جانب محدد يتعلق بما يتضمنه هذا المفهوم لأننا سنبني على مضامينه استنتاجاتنا في الصفحات القادمة.
إنّ هذا المفهوم يقوم على رعاية حقوق الفرد وتلبيتها على اعتبار أنّ المواطن عضو في دولة له فيها ما لأيّ شخص من الحقوق والامتيازات التي يكفلها الدستور. وعليه واجبات تجاه وطنه، وبين الحقوق والواجبات تتداخل عواطف لا يشعر بها إلا المواطن نفسه نحو وطنه، ما يعني أنّ هذا المفهوم سواء كان في معناه الضيق أو الواسع يقوم على حبِّ الوطن والولاء له سواء كان من خلال النشاطات التعليميّة، أو الممارسات اليوميّة. حيث إنّ الولاء وحبَّ الوطن في المعنيين، الضيق والواسع لا يقاسان بالسلوك الظاهري فقط لعمل المواطن، بل بالممارسة العمليّة والمشاركة الفعليّة، إنطلاقاً من مفهوم حبِّ الوطن، هذا الشعار الجميل ” حبّ الوطن ” دائماً ما يُرفع لإنجاز بعض الفعاليات وفي مناسبات خاصة إلا أنّ المشاركين في هذا النشاط يتم اختيارهم (بعناية) من بين عشرات الأفراد الراغبين في المشاركة؛ فكأنّ المسؤولين يتحاشون المفاجآت غير السارة. وهذا ما نعني به ” أنّ المسؤول يفكر عن الجميع وهو أحرص على الوطن من غيره !” وبطبيعة الحال يدرك الفرد العاقل الهدف من تصرف هذا المسؤول وبهذه الطريقة المنافية والمحطمة لقيم المواطنيّة لدى الناشئة. وعلى الجانب الآخر، هناك بعض الأفراد لا يشاركون في المناسبات الوطنيّة إما تحاشياً لعدم رغبتهم بأن يوصموا بالموالين لنظام الحكم الذي يعتقدون إنه لم ينصفهم في حقوقهم، بل ولم يساوِ بينهم وبين بعض الأفراد في الحقوق، لكن يساوي بينهم في الواجبات وفرض العقوبات وما شابه، وهذا ما نقصد به أنّ الدولة يكون لها دور كبير في تغذية الولاء أو عكس ذلك.
وهنا يأتي دور المسؤول المنصف والعادل، العمل على مساواة الجميع في الحقوق من غير تمييز، كما يساوي بينهم في الواجبات من غير تمييز كذلك، فعلى سبيل المثال، إنّ أجهزة الدولة تطبق نصوص قانون المرور في حالة السرعة على أكثر من 99 % من متجاوزي السرعة المحددة، بمعنى أنها ساوت الجميع في هذا القانون، فبالتالي يُنتظر منها أن تساوي النسبة نفسها في كثير من قوانينها وأنظمتها، وإلا أصبحت كمن يتعمد التفرقة بين المواطنين ويسبِّبُ بصورة مباشرة أو غير مباشرة في إذكاء التفرقة وعدم الانتماء… وبالتالي وضعت العثرات أمام إرساء المساواة وتعزيزها بين أفراد المجتمع الواحد.
ما يعني أنّ التربيّة على المواطنيّة، ليست بعيدة في أهدافها عن التربيّة الوطنيّة، ولكن لا يمكن، في أيّ حال، رد أجزاء هذا النظام إليها، فلكل جزء من تلك الأجزاء قوامه أو موضوعه، فموضوع التربيّة على المواطنيّة كما ذكرنا سابقاً، هو تنشئة الفرد من حيث هو عضو فاعل في دولة وطنيّة، من خلال ممارسة حقوقه وواجباته. فالمواطنيّة: هي صفة الفرد الذي يتمتع بالحقوق ويلتزم بالواجبات التي يفرضها عليه انتماؤه إلى وطن معين وفي مكان محدد، وأهمها واجب الخدمة العسكريّة وواجب المشاركة الماليّة في موازنة الدولة. وهذه التربيّة تفرض أن يحب المواطن وطنه ويعتز بالانتماء إليه كما أنّه يكون مستعداً للتضحية من أجله وإقباله طواعية على المشاركة في النشاطات والأعمال التي تستهدف المصلحة العامة.
ما نخلص إليه أنّ المواطنيّة لا يمكن أن تترسخ في الأفراد ما لم يراد لها أن تكون من بنية النظام السياسي والاجتماعي بدليل إنّ الأفراد الذين وَقع عليهم الظلم وفُرض عليهم بالقوة، قد أصبحوا مسيَّرين لا حول لهم، وقَبِِلوا بالظلم وانتقلوا من نظام العبودية إلى نظام الإقطاع في القرون الوسطى التي تشكلت منهم في فترة لاحقة، طبقة الفلاحين التي سميت بالرعية. ثم إلى الفترات الزمنيّة المتلاحقة، إلى عصر التحرر والنهضة. هذا التحول نحو المواطنيّة لم يأتِ من الفراغ ولا برغبة من المتسلطين، وإنّما جاء بفضل صمود تلك الشعوب وتضحيتها. فالحريّة لا توهب إطلاقا، لذلك يتبين أنّه ومن خلال التغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي تتجسد الدولة السياسيّة مع مقوماتها من أرض وشعب وسيادة وسلطة في المجتمع الجغرافي حيث تظهر فكرة المواطنيّة إلى الوجود. وهذا الانتقال لا يحصل بشكل عفوي أو بواسطة العامل الزمني فقط، بل من خلال إرادة المواطنين. ولا ينتهي دور هذه الإرادة بإزالة بعض المظاهر التي كانت سائدة قبلهم بواسطة القوة غالباً، بل هناك دور آخر يمتد على فترة طويلة من الزمن وتقوم به المؤسسات المجتمعيّة، وبخاصة المدرسة – شرط أن يتعدى دورها تلقين التلاميذ المعارف- التي يمكنها أن تنمي بطريقة منظمة روح الوطنيّة في النشء وتوعيتهم على حقوقهم وواجباتهم، وتنقل لهم التراث المشترك بين أفراد المجتمع والأجيال المتعاقبة.
رابعاً: أبعاد مفهوم مبدأ المواطنية وشروط مراعاته
يتضح من العرض السابق أنّ مبدأ المواطنيّة كما استقر في الفكر السياسي المعاصر هو مفهوم تاريخي معقد له أبعاد عديدة ومتنوعة، منها ما هو قانوني ومنها ما هو ثقافي وسياسي، ولذلك فإنّ ّنوعيّة المواطنيّة في دولة ما تتأثر بالنضج السياسي والرقي الحضاري كما يتأثر مفهوم المواطنيّة عبر العصور بالتطور السياسي والاجتماعي وبعقائد المجتمعات ونظمها السياسيّة…
إنّ مصطلح المواطنيّة يتطلب إقرار بعض المبادئ والقوانين وقيام المؤسسات التي تضمن تطبيقه على أرض الواقع. لذلك لا بد من وجود الحد الأدنى من الشروط التي تسمح لنا بالقول بمراعاة مبدأ المواطنيّة في دولة ما. وتشمل هذه الشروط إلى جانب الحقوق القانونيّة والدستوريّة وضمانات المشاركة السياسيّة الفعّالة، الحد الأدنى من الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة التي تمكّن المواطن من التعبير عن رأيه بحرية والاستفادة من الضمانات الاجتماعيّة المختلفة. كما يجب أن تشمل هذه الشروط حداً أدنى من المسؤوليّة المجتمعيّة في ما يخص فرص العمل والرعايّة الاجتماعيّة والصحة والتعليم والتنميّة الثقافيّة. ولعل القاسم المشترك – في وقتنا الحاضر- المعبر عن وجود قناعة فكريّة، يتمثل في التوافق المجتمعي على عقد اجتماعي يتم بمقتضاه اعتبار المواطنيّة مصدر الحقوق والواجبات بالنسبة إلى كل من يحمل جنسية الدولة بدون تمييز ديني أو عرقي أو بسبب الذكورة أو الأنوثة، ومن ثم تجسيد ذلك التوافق في دستور ديمقراطي.
وجدير بالذكر أنّ الدستور الديمقراطي هو دستور مختلف عن الدساتير من حيث إنّه يرتكز على خمسة مبادئ ديمقراطيّة عامة (١).
1- الشعب مصدر السلطات.
2- المساواة أمام القانون.
3- عدم الجمع بين أي من السلطة التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة في يد شخص أو مؤسسة واحدة.
4- ضمان الحقوق والحريات العامة دستوريّاً وقانونيّاً وقضائيّاً، من خلال قـدرة منظمــات المجتمع المدني على الدفاع عن الحريات العامة وحقوق الإنسان.
5- تداول السلطة سلميّاً بشكل دوري إثر انتخابات عامة حرة ونزيهة بإشراف قضائي مستقل، وشفافية عالية تحد من الفساد والغش والتضليل والتلاعب في العملية الانتخابيّة.
من هنا فإنّ الحد الأدنى لاعتبار دولة ما، مراعية لمبدأ المواطنيّة، يتمثل في وجود شرطين جوهريين:
1- زوال وجود مظاهر حكم الفرد أو القلة من الناس، وتحرير الدولة من التبعيّة للحكام، وذلك باعتبار الشعب مصدر السلطات وفق شرعية دستور ديمقراطي.
2- اعتبار جميع السكان الذين يتمتعون بجنسية الدولة أو الذين لا يحوزون جنسية دولة أخرى (البِدون) أو المقيمون على أرض الدولة وليس لهم في الحقيقة وطن سواه مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات يتمتع كل فرد منهم بحقوق مدنيّة وقانونيّة كما تتوفر ضمانات وإمكانات ممارسة كل مواطن لحق المشاركة السياسيّة الفعّالة وتولي المناصب العامة. فإلى جانب الأبعاد القانونية والسياسية للمواطنية هناك أيضاً الحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة. إنّ ممارسة المواطنيّة على أرض الواقع يتطلب توفير حد أدنى من الحقوق للمواطن حتى يكون للمواطنيّة معنى ويتحقق بموجبها انتماء المواطن وولاؤه لوطنه وتفاعله الايجابي مع مواطنيه نتيجة الحق في المشاركة الفعالة والشعور بالإنصاف.
ما نود الوصول إليه هنا، تعقيباً على ما طرحناه من آراء وأفكار لبعض المفكرين في هذا الخصوص، هو أنّ المعنى المعاصر للمواطنيّة قد نشأ في رحم المجتمع الغربي كما يقول جورج القصيفى (١) أيّ في دولة نضج تركيبها السياسي والمؤسسي في رقعة جغرافية محددة؛ وعليه، فإنّ تطبيق هذا المفهوم في الواقع العربي اليوم يطرح نقطتين رئيسيتين هما:
– ما هي طبيعة/ نمط الدولة العربيّة الحالية: هل هي دولة المؤسسات كما نشهدها في الغرب، أم دولة العصبيات، كما أشار ابن خلدون إلى ذلك منذ حوالي 700عام؟.
– ثم كيفية المقاربة القوميّة أو الدينيّة لمفهوم المواطنيّة في تجمعات سياسيّة منشودة ولكنها لم تتحقق على أرض الواقع بعد.
وأخيراً ولكي نعتبر دولة ما مراعيّة لمبدأ المواطنيّة من عدمه، فمن الأهميّة اعتبار أنّ الشعب هو مصدر السلطات وفق شرعيّة دستور ديمقراطي ومن خلال ضمانات مبادئه ومؤسساته وآلياته الديمقراطيّة على أرض الواقع. كذلك ومن الأهمية اعتبار جميع السكان المتمتعين بجنسية الدولة وحتى الذين لا يحوزون الجنسيّة لكنّهم مقيمون على أرض الدولة وليس لهم في الحقيقة وطن غيره مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات يتمتع كل فرد منهم بحقوق مدنيّة وقانونيّة متساويّة، كما تتوفر إمكانات ممارسة كل مواطن حق المشاركة السياسيّة الفعّالة وتولي المناصب العامة.
ما يعني أنّ الجوانب المدنيّة والقانونيّة والسياسيّة من حقوق وواجبات ليست كافية للتعبير عن مراعاة مبدأ المواطنيّة. إنّ ممارسة مبدأ المواطنيّة على أرض الواقع يتطلب توفير حدِ أدنى من هذه الحقوق للمواطن حتى يكون للمواطنيّة معنى ويتحقق بموجبها انتماء المواطن لوطنه وولاؤه له وتفاعله الايجابي مع مواطنيه نتيجة القدرة على المشاركة الفعلية والشعور بالإنصاف وارتفاع الروح الوطنيّة لديه عند أداء واجباته بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معانيَ.
لذا فإنّ أهمية الأبعاد القانونيّة والسياسيّة ليست لأنها أفضل من بقية الحقوق الأخرى بل لإمكانية النضال السياسي السلمي لاستخلاص الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة والبيئيّة تدريجيّاً، وإدارة أوجه الاختلاف ديمقراطيّاً، وذلك من خلال الحماية القانونيّة والفعاليّة السياسيّة التي يوفرانها بفضل ما يقرانه ويسمحان به من شرعية العمل الجماعي بمختلف أشكاله، الحزبي، النقابي، المجتمعي المدني…
المصادر
(1) Bernard Crick, 1999 Citizenshipfoundation,http://www.translate-.org.uk/main66,249,93,104..24/2/2007
– [راغ ( (Rugg تربوي أمريكي، في 1925 نادى بوجوب التفكير بتطوير المناهج إنطلاقاً من اهتمامات التلاميذ وفهمهم ورؤيتهم للأمور] www.eric.TexasInterbationl.com (2)
– [«جون ديوي» «John Dewey»، انظر صفحة المقدمة في هذه الدراسة.]
2/25/2007
[روبرت دال، 1915، أسترالي، أستاذ للعلوم السياسية في جامعة ييل. ]
هذه الأطروحة للدكتور عبدالرحيم شاهين وهي من متطلبات الحصول على شهادة الدكتوراة في العلوم الإنسانية – التربية .
الموضوع التربية على المواطنية
وقد حصل على هذه الشهادة من جامعة ( سانت جوزيف) القديس يوسف – بيروت: لبنان.
أشرف عليها: الدكتور غسان يعقوب
الدكتور أفرام البعلبكي – القارئ الأول
الدكتور شوكت أشتي – القارئ الثاني
الدكتور أنطوان صياح – القارئ الثالث