عاشت الأسرة وكتّابها ضمن المخاض الصعب ذاك، دون دعم رسمي، ولم تسمح لهم بإصدار مجلتهم الخاصة المعبرة عن توجهاتهم ومدارسهم الأدبية والفكرية، كما ان المقرات المستأجرة اليتيمة لأسرة فقيرة، لن تثنيها عن عزيمة المواجهة والتواصل الداخلي، وستتكيف وتتنفس الأسرة بطريقتها الخاصة في التمثيل الخارجي للإبداع البحريني الفتي، وستتماس مع المؤسسات الثقافية الخارجية، الأهلية والرسمية في الوطن العربي. ومع توتر الوضع السياسي في فترة المجلس التشريعي وصدور قانون امن الدولة سيئ الصيت، ودخول البحرين حقبة جديدة من الانغلاق والتشدد والملاحقة البوليسية للكلمة، بحيث وردت تعليمات للصحف وغيرها بمضايقة وملاحظة كل ما تكتبه الأسرة، بل ومنعت الصحف مفردات كثيرة، لكونها كانت خطابات تحريضية وتوعوية للشارع السياسي. بدأنا نرى غيوم الظلمة تتكاثف، غير إن قتامتها ازدادت مع اغتيال الصحافي عبدالله المدني وما تبعه من استشهاد عضو في الأسرة هو الشاعر سعيد العويناتي. كان لموت سعيد هزة على الشارع البحريني من الجانب السياسي، ولكن هزته كانت مضاعفة على الأسرة وأعضائها كون العويناتي شاعرا فتيا في بيتها وسياسيا ملتزما بأفكار تقدمية، فبلغت الرسالة المؤلمة وهزتها تلك الساحة الثقافية، وتحولت الطرقات والمصابيح إلى شموع ذابلة، وساد كابوس الحزن والرعب المستوطن، فتاريخ البحرين حتى تلك اللحظة لم يشهد موت إنسان في المعتقل السياسي بسبب التعذيب وقسوته المتناهية، إن لم تكن رسالة القسوة تلك هدفها نشر الترهيب وإغلاق مسامات الكلمة الحرة. في فترتي اعتقال 72-75 التقيت بالأخ حداد وعبدالحميد قائد، وعلى الشرقاوي، وعبدالله خليفة، غير إن المحطات اليومية الأخرى في الندوات والمكتبات ودار الغد وغيرها، ستكون مساحة اكبر للتعرف على أغلبية المبدعين الشباب كالشاعر سعيد العويناتي وعبدالقادر عقيل وعلي عبدالله خليفة، أما أمين صالح فقد كان زميل دراسة. وفي خضم المعركة كان الأدباء في زيارات منتظمة إما للسجن السياسي أو لمكاتب التحقيق، بل وبلغتهم رسائل الترهيب، حيث قال احد الشخصيات المهمة في جهاز الدولة بعبارة واضحة “كيف تريدونني أن اقتنع بأن الأسرة ليست جهة سياسية وأعضاؤها فلان وفلان وفلان”، مثلما قال المحقق هيكنز لواحد منا، لو أشرت أين مركز الشرطة في المحرق لأومؤوا لك هناك، ولو سألتهم أين مقر الجبهة الشعبية لقالوا لك إنه بيت “علي الشيراوي!!”، وكان الأدباء الشباب وغيرهم من الفنانين والمثقفين، يتغذون ويتسامرون في ذلك البيت الكريم. وما من شخص منا يوم الجمعة زار المحرق إلا ووجد قدمه في بيت الشاعر قاسم حداد أو علي الشيراوي، حيث الناس كانت تمارس حياتها الاجتماعية والثقافية والسياسية معا، وتلك سمة من سمات الشخصية البحرينية والمرحلة الساخنة والمنفرجة والمنفتحة في ذات الوقت. كتب تصادر ومكتبات تراقب وكلمات تحذف ومقالات تعلق وأصوات تلاحق وتخنق، ولكن “الصوت” الشعري والقصصي والإبداعي يظل داخل السجن أو خارجه مستمرا حتى مع موت الشاعر أو سجنه. ونتيجة لذلك المخاض الصعب ستجد نفسها الأسرة تنأى عن الاحتفاء بشاعرها المذبوح أو المغيب خلف القضبان، بل وصار للهمس السياسي معنى مكتوم وللحديث الفكري المتواري خلف الجدران مهمته في ممارسة دور المثقف المبدع في تطوير الوعي الاجتماعي العام، بل وشكل حضوره جزءا من ذلك المجرى الثقافي المستمر في بلدنا. وسيذهب بعض من مؤسسيها نحو عوالمهم الخاصة، بعد أن توهم الأوائل من الشباب المبدع أنهم سيحظون بمشروع نقدي مستمر من الدكتور الأنصاري بحيث يقيّم نتاجاتهم الجديدة، والذي فضل اختيار مواضيع كلاسيكية في الأدب، تجنبه الحديث والاقتراب من التحليلات السياسية لذلك النوع من الإبداع المتمرد والعنيد والواقف في خندق المواجهة رافعا شعاره -ودون تراجع- الكلمة من اجل الإنسان، وستجد الأسرة في مخاضها الصعب نقادا جددا وأعضاء في الأسرة، يهتمون بنتاجات الأدباء الشباب، كالأستاذ احمد المناعي والدكتور إبراهيم غلوم، وان كانت عملية المخاض ستدفع بهذا القدر أو ذاك نحو قراءات وكتابات نقدية عدة، من طراز كتابات الدكتور المحادين والبنكي وغيرهما، دون أن تفقد الأسرة ينبوعها الإبداعي ولا رجالاتها الحقيقيين، حاملي مشعل الكلمة في ظلمة الوقت والمكان. التحمت المدينة السياسية المنامة بالمحرق ثقافيا داخل إطار جديد اسمه الأسرة، مثلما كانت تلتحم سياسيا على مدار تاريخها السياسي المضطرب، دون أن تغيب القرية البحرينية الأكثر تماسا مع حدود مركز المدينة، فجاءت أصوات شابة تتوق للإبداع من السنابس والديه كأحمد الحجيري ويوسف حسن ومن بلاد القديم سعيد العويناتي. وإذا ما كانت أصوات القرية في البدايات محدودة، فإنها مع عملية التطور خلال الأربعة عقود صارت مستودعا خصبا للإنتاج والغزارة والعطاء، فقد خلت القرية في تلك الفترة من أي صوت نسائي، فبدت شاحبة تماما مما يعني أن المجتمع الريفي، والثقافة والتطور والحداثة يومها كانت تحمل من الدلالات الشيء الكثير، وعيا ومضمونا وحراكا مجتمعيا، لهذا ليس صدفة أن تخلو الأسرة من أعضاء أصولهم من مناطق كالحد والرفاع وقلالي والزلاق والبديع وبني جمرة والدراز، حيث غلبت الاهتمامات على الشؤون الرياضية والنمطية الثقافية.
صحيفة الايام
27 اكتوبر 2009