الديمقراطية التي أعدمت سقراط هي ذات الديمقراطية التي ستعدم هذا الوطن، لأنها ديمقراطية غوغائية غير ليبرالية، وهنا تكمن المعضلة الرئيسة في عدم جدواها في تقدمنا، «فالرفاق حائرون.. يفكرون.. يتساءلون في جنون» كيف الديمقراطية تكون مصدرا للتقهقر والتخلف والسكون، فبدون الثقافة الليبرالية التي تحمي قيم الفردية والتعددية والتسامح وقبول الآخر وتضمن الحريات وحقوق الإنسان والأقليات لن تجلب الديمقراطية إلا دكتاتورية الأكثرية والشمولية والعنصرية والطائفية، وهي ديمقراطية مدمرة ما لم تستند إلى أرضية ليبرالية صلبة، فالديمقراطية التي تعادي الليبرالية لا تنتج إلا نقيضها من قمع وظلم وإكراه في الدين وإقصاء الآخر وأحادية الفكر، فتصبح الحرية حينئذ مهددة من قبل المتطرفين والعنصريين والمستبدين الذين تأتي بهم الديمقراطية غير الليبرالية.
وهو ما يؤكده الكاتب الصحافي الأميركي فريد زكريا، ذو الأصل المسلم، ورئيس تحرير نيوزويك إنترناشونال ومؤلف كتاب مستقبل الحرية «أن الديمقراطية التي تنشأ دون دعائم الليبرالية السياسية تؤدي إلى الفاشية والديمقراطية المتعصبة»، وتقود «إلى وضع استبدادي أسوأ من الوضع السابق عليها». فالمجتمعات غير الليبرالية التي تطبق الديمقراطية تمنح الحرية لأعداء الحرية، ويا للمفارقة العجيبة، فهي توصل من لا يؤمنون بالديمقراطية الحقيقية إلى الحكم ليستخدموها كمطية في هدم أساسها وجوهرها.
لذلك فرقت في مقالي السابق بين تطور دبي الليبرالية وتخلف الكويت الديمقراطية، وبالرغم من أن الدستور الكويتي في الأصل دستور ليبرالي فإن القوانين غير الدستورية (لأنها غير ليبرالية بطبيعة الحال) تجرده من معناه وتفرغه من محتواه، وهو تناقض شنيع وتجاوز مريع بحق المواطن والوطن. فقد تأتي الديمقراطية غير المتسامحة بنظام أسوأ من طالبان، وهو ما يحاول فرضه أصوليونا بالتدريج ابتداء من حرمان إعطاء الجنسية لغير المسلم إلى منع الاختلاط إلى فرض الضوابط الكثيرة التي تحد من الحريات الشخصية وانتهاء بمحاولة فرض الحجاب على الجميع.
والحقيقة التي نغفل عنها كثيرا هي أن الغرب لم يتطور بالديمقراطية بل بالليبرالية الدستورية التي مهدت الأرضية للديمقراطية الحقيقية، لتتأصل تلك الثقافة في النظام التربوي والاجتماعي والسياسي ويصبح منهج وأسلوب حياة عوضا عن اختزالها في أدواتها وآلياتها الشكلية من تصويت وصناديق اقتراع (كما هو حاصل لدينا).. فلبرلة الثقاقة هي مقدمة طبيعية لدمقرطة السياسة وليس العكس، لتنصهر الطوائف والمذاهب والأعراق في بوتقة المواطنة التي أسستها الثورة الفرنسية عام 1879م، والتي قامت على «مبادئ حقوق الإنسان والمواطن». ولتبني دولة المؤسسات والقانون التي تؤمن كرامة الانسان من خلال المساواة واحترام الحريات، ولتنتصر قيم الحداثة والمواطنة الحقيقية حين أصبح الناس أكثر استنارة ونضجا فأبعدوا كل معايير التمييز على أساس الدين والمذهب والعرق. وهذا لا يعني إطلاقا أنهم استأصلوا الدين اجتماعيا أو لم يعترفوا به سياسيا، كما يتوهم البعض، فهناك الكثير من الأحزاب المسيحية التي تؤمن بالحريات والدولة المدنية، على عكس ما يحصل لدينا من طغيان الفكر المتزمت (الذي يريد فرض رؤيته الخاصة على المجتمع) على الفكر الإسلامي المستنير (الذي يؤمن بالتنوع والاختلاف).
إن الديمقراطية غير الليبرالية مأزق وبلاء عظيم تجذر في عالمنا المنغلق، حيث صعد الدكتاتوريون والأوتوقراطيون والطغاة إلى الحكم عبر الانتخابات، فلم نستفد من تجربة انتخاب هتلر النازي وموسوليني الفاشي اللذين أدخلا بلادهما في حرب مدمرة قتلت أكثر من ستين مليونا. والأمثلة دوننا كثيرة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، وصول «حماس» المستبدة التي تميز المواطن الفلسطيني حسب انتمائه الديني، واحتكار رجال الدين في إيران لحق الترشيح والانتخاب. والشواهد على انتهازية جماعات الإسلام السياسي أكثر من أن تحصى كتصريح نائب رئيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر قبيل الإعلان النهائي لفوزها في الانتخابات في 1991 «بأن الديمقراطية كفر وأن هذه الانتخابات سوف تكون الأخيرة في الجزائر، وأن الحكم في الجزائر سوف يكون إسلامياً بمجرد فوز الجبهة في الانتخابات»، وتأكيد مرشد الإخوان المسلمين في مصر أنهم «سيتعاملون مع الأقباط (في حال فوزهم بأي انتخابات قادمة) بموجب فقه أهل الذمة».. كما ستحرم عليهم (أي الأقباط) تولي المناصب الرئيسة للدولة، بالإضافة إلى انتهازية القوى الأصولية في الكويت في استغلال أدوات الديمقراطية ليصادروا السلطة أولا، ثم يحاربوا بعد ذلك الأسس التي قامت عليها ويهدموا جوهرها في محاولاتهم إقصاء الآخر وإلغاء التعددية والحرية وإشغال الناس بالقشور وتوافه الأمور.
فالديمقراطية وحدها لن تضمن التقدم، وقد تقود إلى الفشل والفوضى، بل قد تفضي إلى نتائج كارثية إن هي تخلت عن أساسها وهي الليبرالية، لتغدو ديمقراطية غوغائية، فيقول المفكر كمال غبريال إن «الكثير من جرائم التاريخ كان للجماهير الغوغائية اليد الطولى في ارتكابها ليس فقط بتحريض من محترفي الغوغاء تحقيقاً للدوافع الشخصية، إنما أيضاً بالمبادرة الذاتية للجماهير تفريجاً عن نوازعها وميولها التي غالباً ما تعادي كل جديد، وتغتنم الفرص لممارسة العنف والتخريب الجماعي».
ومع كل ما نشهده في واقعنا السياسي والاجتماعي.. هل من شك أننا نعاني بسبب ديمقراطية غوغائية مدمرة؟
جريدة الجريدة
12/10/2009