المنشور

أوباما و”نوبل”.. وآفاق التغيير

لربما كان الرئيس المصري الراحل أنور السادات من أكثر رؤساء جمهوريات العالم شكوى مما خلفه له، على حد زعمه، سلفه الراحل الزعيم العربي والرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر من “تركة سياسية ثقيلة”، وظل يتظلم ويجأر من هذه التركة في سياق خطابات سياسية متعددة له، هو الذي ظل طوال حياة عبدالناصر الرئاسية على امتداد ما يقرب من 20 سنة (1952م- 1970م) مدافعا وشريكا، كما يفترض، في صنع ذلك الارث السياسي الناصري، بل بفضله آلت السلطة إليه فوراً بعد مماته ثم انقلب عليه بزاوية 180 متنكراً ليس لكل ذلك الارث السياسي فحسب، بل مجهزاً على المكتسبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتحققة في الحقبة الناصرية وهذا ما كان يقصده السادات من ارث ثقيل.
لعل المعيب في شكوى السادات وعدم منطقيتها انها تمثل نكوصا نفاقيا فجا عن تجربة سياسية لنظام وطني غير تعددي في الحكم هو كان ليس شاهداً عليها فحسب بل مشاركاً فيها. لكن ألا تصح الشكوى من تركة ثقيلة لاسلافه الرؤساء السابقين إذا ما أبداها رئيس جديد يحمل الكثير من الطموحات السياسية ويرفع شعار التغيير في ظل نظام سياسي تعددي عريق في تداول السلطة كالرئيس الامريكي المنتخب الجديد باراك اوباما؟ ربما.
لكن المؤكد ان الذين يتطلعون الى حدوث تغيير هذه التركة السياسية جذريا وكنسها بين عشية وضحاها انما يتوهمون أيما توهم. وأي تركة هذه؟ انها تركة ستة عقود متواصلة من الحروب الظالمة التي خاضتها الولايات المتحدة في الخارج، انها تركة نصف قرن من القواعد العسكرية العدوانية التي فرضت على شعوب بلدان عديدة في العالم، تركة نصف قرن من دعم أحط وأقذر الانظمة الدكتاتورية والشمولية في العالم بدءاً من أمريكا اللاتينية ومروراً بافريقيا والشرق الأوسط وانتهاء بآسيا، ومن ضمنها على وجه الخصوص النظامان العنصريان الجنوب افريقي المقبور والاسرائيلي الصهيوني على أرض فلسطين العربية المغتصبة، وهو النظام العنصري الاستيطاني الاستعماري الوحيد المتبقي في العالم بفضل دعمها له اللامحدود سياسيا وعسكريا وماليا على امتداد ستة عقود متواصلة منذ انشائه، دع عنك تسلطها السياسي على أنظمة وحكومات عديدة في العالم ونهب ثروات بلدانها، إنْ من خلال ما تفرضه من اتفاقيات اقتصادية ثنائية مجحفة، وإنْ من خلال أذرعها المؤسسية الاقتصادية الدولية، كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير.
ومع ذلك فإن الرئيس الامريكي المنتخب الجديد اوباما إذ يومئ تلميحاً لهذه التركة التاريخية الثقيلة لا ينتقدها بمجملها، ولا يقدم نفسه باعتباره المنقذ المخلص لتخليص شعبه والعالم منها، لا بل ليس بوسعه أصلاً فعل ذلك لو أراد، إذ هو ليس مقيداً بتركة ثقيلة مزمنة من مواريث السياسات الخاطئة والشريرة التي ترسخت داخليا وخارجيا فحسب، ومازال يصعب ازالتها بجرة قلم واحدة، بل الأهم من ذلك مقيد بنظام مؤسسي رأسمالي عريق لا يستطيع اوباما سلخ جلده عنه كأنه ابن غير شرعي للمؤسسة التي وصل بقوانينها الى السلطة، وحيث تتحكم في هامش حركته موازين قوى دقيقة حبكتها ونسجتها ورسختها تاريخيا نخبة وساسة الطبقة الرأسمالية وأبدعت تصميم البناء المعماري لهذا النظام الرأسمالي بما يجنبه هزات وزلازل السقوط حتى لحظة تاريخية فاصلة يصل فيها هذا النظام الى أرذل مراحل الشيخوخة والعجز وهي لحظة مازالت بعيدة زمنيا لم يأزف ميقاتها بعد.
بهذه المعاني كلها المتقدم ذكرها فإذا ما عولت الآمال على أوباما باعتباره أهون الشرين قياسا بالرئيس السابق جورج بوش الابن فهو بالفعل لن يكون بمقدوره في هذه المرحلة سوى ان يكون “اهون الشرين”، حتى لو كان طموحه الشخصي اكبر من ذلك، أي ان يكون أقرب إلى الخير داخليا وخارجيا وأفضل من مجرد أهون الشرين استناداً إلى شعاراته ووعوده بالتغيير على صعيدي السياسات الداخلية والسياسات الخارجية.
واذا ما استطاعت قوى الخير والسلم والديمقراطية وحقوق الانسان داخل بلاده وفي بلدان العالم قاطبة الضغط باتجاه تقليل تأثير قوى الشر فيه من المحيطين به داخل المؤسسة الحاكمة والضاغطة عليه وعلى حكومته من خارج هذه المؤسسة قدر المستطاع وبأدنى نسب التغيير الممكنة، فإن نجاح هذه القوى يُعد أكبر انتصار للشعب الامريكي والبشرية في هذه المرحلة التاريخية، سواء خلال ولايته الحالية أم من خلال ولاية ثانية اذا ما قرر الترشح إليها والفوز في انتخاباتها، لأن ذلك سيمهد الأرضية حتماً لانتصارات مستقبلية في معركة الصراع التاريخي الطويلة من اجل احداث نقلة تغيير ملموسة في المؤسسة السياسية الامريكية الحاكمة.
وبهذه المعاني لربما نتفهم، إلى حد ما، دواعي ودوافع لجنة نوبل لمنحه جائزة نوبل للسلام، بصرف النظر عن اتفاقنا او اختلافنا مع حيثيات قرارها جزئيا أو كليا، وهو القرار الصاعقة الذي أحدث عاصفة من الجدل العالمي لم تهدأ بعد. حتى أوباما نفسه لم يسلم من صاعقة المفاجأة من القرار وبخاصة انه لم تمض على تسلمه زمام الحكم في أمريكا سوى تسعة أشهر حيث عبر عن دهشته من الاعلان بفوزه بها وقال بتواضع غير مفتعل انه لا يستحقها وقال إنها رسالة لكل العالم للالتزام بالعمل على خلق عالم جديد قادر على مواجهة التحديات بشكل جماعي.
ومن الواضح وبالرغم من ان اللجنة حاولت تسويغ قرارها استناداً الى ما زعمته بما قام به اوباما خلال التسعة الأشهر الماضية من أعمال لخدمة السلام ونزع التسلح النووي واعادة شحن الدبلوماسية الدولية بالحيوية واعلاء التعاون بين الدول والشعوب، فإنه من الواضح انها توخت من قرارها تقييده معنويا بهذه الجائزة بحيث تكون قيدا ورقيبا ضميريا على افعاله وسياساته المقبلة لتنسجم ومدى استحقاقه الجائزة.
لكن إلى أي حد حقا من الهامش يستطيع اوباما ان يجعل على الاقل سياسات ادارته داخليا وخارجيا اقل معاداة لمصالح الشعب الامريكي ولمصالح اغلبية شعوب العالم المتضررة من سياسات الولايات المتحدة مقارنة بأسلافه الرؤساء السابقين منذ ظهور الولايات المتحدة كقوة عظمى على المسرح الدولي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية؟ ذلك ما ستجيب عنه الأشهر الثلاثة المقبلة والسنوات الثلاث المتبقية من ولايته الأولى، هذا إذا ما نحينا جانباً ما ظهر حتى الآن من سياسات غير مشجعة وقلنا من المبكر جعلها معيارا لتقييم ولايته وهو مازال في بداياتها.
 
صحيفة اخبار الخليج
26 اكتوبر 2009