في الذكرى السنوية الأولى للأزمة المالية الاقتصادية العالمية يعود الجدل من جديد بشأن مدى تمتع حزم الإنقاذ المالي الضخمة التي ضُخت في الاقتصادات الوطنية العالمية الرئيسية وإلى حد ما المتوسطة الحجم، بقوة دفع كافية لتحويل بوادر الانتعاش التي يسجلها الاقتصاد العالمي منذ بضعة أشهر، إلى دورة رواج ونمو تتجاوز ضغوطات الأزمة وذيولها.
كما هو معروف فإن العالم شهد أكبر عملية ضخ (إنفاق) مالي في تاريخه في أوقات السلم. حيث تصدت حكومات بلدان العالم للأزمة المالية الاقتصادية بإجراءات وقائية راديكالية تمثلت تحديداً في خفض الضرائب وضخ كميات هائلة من الأموال الحكومية في الاقتصاد.
ولازال الحبل على الجرار حيث يقدر حجم الإنفاق الحكومي الذي قررت ضخه دول مجموعة العشرين هذا العام بحوالي 2٪ من إجمالي ناتجها المحلي، ويتوقع أن يبلغ 6,1٪ من إجماليها في عام .2010
وهنا انقسم الاقتصاديون بشأن نجاعة وجدوى الاستمرار في هذه السياسة المالية التوسعية. وينطلق هذا الجدل من مقولة المضاعَف المالي (Fiscal multiplier) لريتشارد خان تلميذ عالم الاقتصاد البريطاني المعروف جون مينارد كينز، المتعلقة بتأثير خفض الضرائب أو زيادة الإنفاق الحكومي على تحفيز إجمالي الناتج. حيث إن المضاعَف الواحد يعني أن زيادة الإنفاق الحكومي بمليار دولار سوف تؤدي إلى زيادة إجمالي الناتج المحلي للدولة بقيمة مليار دولار.
ويتوقف حجم المضاعَف على الظروف الاقتصادية السائدة، ففي حالة الاقتصاد الذي يعمل بأقصى طاقته فإن المضاعَف المالي لابد وأن يكون صفراً. فنظراً لعدم وجود مصادر فائضة فإن أي زيادة في الطلب الحكومي لن تعمل سوى على استبدال نفقات في مكان آخر. أما في حالة اقتصاد راكد حيث المصانع متعطلة وعمالتها متبطلة، فإن المحفزات المالية يمكن أن تزيد الطلب الكلي بشكل عام، وعندما تؤدي جرعات التحفيز الأولى في إحداث حفز إنفاقي بين المستهلكين وأصحاب الأعمال، فإن المضاعَف يمكن أن يكون أكبر من واحد.
كما أن تأثير المضاعَف يتغاير بحسب نوع الإجراء المالي المتخذ في سياقه. فالإنفاق الحكومي على إنشاء جسر يمكن أن يكون تأثير مضاعَفه أكبر من إجراء خفض الضرائب في حال مال المستهلكون لتوفير جزء من ساقط الجباية الضريبية. وكذلك فإن الخفض الضريبي الموجه لمحدودي الدخل يمكن أن يكون له تأثير إيجابي على الإنفاق أكبر مما لو استهدف هذا الخفض (الضريبي) الأغنياء، ذلك أن محدودي الدخل يميلون إلى إنفاق القسم الأعظم من مداخيلهم.
وهناك عامل الثقة الذي يشكل عصب معطيات معادلة المضاعَف. فكلما كان تجاوب جمهور المستهلكين مع الإجراءات التحفيزية (الإنفاقية) الحكومية، إيجابياً، كلما ارتفع المضاعَف تواسقاً مع ارتفاع الطلب وازدياد الإقبال على الاستثمار. أما إذا تسرب للمستهلكين شعور بأن الحكومة قد تلجأ لرفع الضرائب فيما بعد لتغطية الحجم الضخم لاقتراضها الموجه لتمويل دالة الإنفاق، فإنهم قد يقللون من إنفاقهم تحسباً لذاك الإجراء المتوقع، وهو ما من شأنه تخفيض المضاعَف المالي إلى أقل من صفر.
أما اختلاف الآراء اليوم بشأن التأثير الذي يمكن أن يتركه الاقتراض الحكومي واسع النطاق على أسعار الفائدة وعلى الإنفاق الخاص فمرده تباين الافتراضات الذي يجد تفسيره في اختلاف تقديرات المضاعَف الناجم عن برامج التحفيز المالي الكبرى التي نفذتها الولايات المتحدة وأوروبا وبعض الدول الناهضة لدفع موجة الركود العاتية التي ضربت الاقتصادات العالمية في سبتمبر من العام الماضي.
في هذا الصدد فإن أعضاء الفريق الاقتصادي في إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما يرون بأن حزمة التحفيز المالي الضخمة التي ضختها الحكومة في الاقتصاد سوف ترفع المضاعَف المالي إلى 6,1 مقابل مضاعف مالي قدره واحد فقط في حال إجراء خفض ضريبي.
الأمر يتعلق هنا برؤيتين اقتصاديتين أيديولوجيتين مختلفتين تماماً. حيث يتبنى الديمقراطيون الذين يمسكون بالسلطة اليوم في واشنطن، المقاربة الكينزية ‘تثوير النمو’، والمتمثلة في تعظيم الإنفاق الحكومي على المشاريع التنموية الأساسية، في حين يتمسك الجمهوريون بمقاربة خفض الضرائب لتحفيز رأس المال على الإنفاق الخاص.
في الواقع أن الوضع اليوم يختلف عما كان عليه بعد الحرب العالمية الثانية عندما كان لنظرية المضاعَف المالي، معنى كبيراً، حيث كان الإنفاق الحكومي واسع النطاق على العتاد الحربي يجد له صدى كبيراً متجسداً في وجود طلب قوي. أما اليوم فإن حزم التحفيز المالي الموجهة أساساً للبنية الأساسية، وأسعار الفائدة في الدول الرأسمالية المتقدمة تكاد تكون صفراً، وأنه وبسبب الأزمة المالية فإن معظم الناس في تلك الدول يواجهون حالات مرتفعة من الإعسار المالي ما يجعل من خفض الضرائب مقاربة فاعلة لحفز الطلب. فضلاً عن أن جمهور المستهلكين لازال متوجساً مما قد يخبئه الغد في ضوء حتمية حلول موعد استحقاق سداد الديون الضخمة التي راكمتها الحكومات على نفسها مقابل مشاريع إنمائية وسيطة بالنسبة للمشاريع الإنتاجية المستديمة.
الحال أن كبريات الدول الرأسمالية قد استنفدت أوراقها الحافظة للتوازن على صعيد السياسة النقدية، حيث يصل سعر الفائدة اليوم إلى مستوى الصفر، وهي مضطرة لإبقاء أسعار فائدتها منخفضة عند هذا الحد لفترة كافية لدرء خطر الكساد. وأما على صعيد سياستها المالية فإنها قد أوصلت عجوزات موازناتها إلى ما يقرب من 10٪ من إجمالي ناتجها المحلي بسبب حملة إنقاذ مؤسساتها ومصارفها من الانهيار. ولما كانت هذه العجوزات قد راكمت ديوناً على الدول الرأسمالية الكبرى قدر إجماليها صندوق النقد الدولي بمتوسط سيبلغ 115٪ من إجمالي ناتجها المحلي بحلول عام ,2014 وانه سيرتفع لاحقاً في بعض الأماكن، خصوصاً في الولايات المتحدة، فإن هنالك فرضية منطقية قوية بأن من شأن عبء هذه الديون أن يدفع أسعار الفائدة إلى أعلى وهجران الاستثمارات الخاصة.
صحيفة الوطن
25 اكتوبر 2009