بحثت ونقبت طويلاً لعلِّي أجد تفسيراً لما أقدمت عليه السلطة الفلسطينية من تنازل وتفريط مجاني في حقوق شعبها الفلسطيني الذي تدعي تمثيله وتمثيل مصالحه، عندما أعطت، في الكواليس طبعاً، موافقتها لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، والذي يتخذ من جنيف مقراً له، موافقتها على ترحيل تقرير بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق حول محرقة غزة والمعروف باسم ‘تقرير جولدستون’ لشهر مارس من العام القادم وتأجيل البحث فيما ورد فيه من اتهامات وإدانات لإسرائيل بارتكاب جرائم حرب وربما جرائم ضد الإنسانية لستة أشهر - أقول بحثت ونقبت ولم أجد سبباً مقنعاً فيما دفعت به السلطة ورموزها المتلعثمين والمرتبكين من مسوغات و’مزوغات’ مخاتلة، لتبرير فعلها المأثوم المتمثل في هذا التفريط المشين في حقوق كل أولئك الأطفال والنساء والرجال والشيوخ الذين تفنن الجيش الصهيوني في قتلهم وإحراقهم داخل بيوتهم وهدم دورهم على رؤوسهم وتجويعهم وتعطيشهم وإذلالهم في محرقة جهنمية لن تُمحى من الذاكرة والضمائر الحية في كافة أنحاء العالم التي عمل مُخْلِصوها من مختلف الجنسيات على جمع الأدلة الدامغة لتقديم مرتكبيها للعدالة وإنزال العقاب الذي يستحقونه على جرمهم الشنيع باعتباره عزاءهم الوحيد للتخفيف من معاناة ضحايا المحرقة الأبرياء. إنه شيء غير مُتَخَيَّل أبداً.. سمعنا عن فساد مخجل في السلطة، وسمعنا عن تواطؤات (أو تماهيات في أحسن الظن - ولكنها من ذلك النوع من التماهي غير الحادث بمحض الصدفة)، الخ من الأنباء المتواترة من حين لآخر، حول وجود اختراق خطير هنا أو هناك، تحققه ‘أوكار’ الفساد والإفساد. إنما أن يصل الأمر لهذا الحد من التواطؤ فهو ما لم يكن يدور في الخلد. إنها مصيبة صادمة وكابوس ثقيل ومزعج إذ أحالنا أولئك التفريطيون إلى أضحوكة أمام العالم. كيف للمرء أن يتصور موقفنا بعد أن خذلنا ريتشارد غولدستون وكل أحرار وشرفاء العالم الذين ضحوا وناضلوا في سبيل القضية الفلسطينية وإحقاق حقوق شعبها في الحرية والاستقلال؟! … حتى عمرو موسى أمين عام الجامعة العربية المكبل بقيود الدبلوماسية والسياسة العربية الرسمية ودهاليزها لم يحتمل هذه السقطة المدوية إذ أطلق زفرة خانقة معبرة عن حنق بالغ حيث قال ‘إن تأجيل تقرير غولدستون أصابني بالغثيان’. هم أنفسهم - أي التفريطيون - صُدِموا بردات الفعل القوية والغاضبة ضدهم ما أوقعهم في حالة إرباك شديدة جعلتهم يتخبطون في تقديم تبريراتهم المتهالكة لما أقدموا عليه من فعل أسعد إسرائيل كلها وأراح أعصاب قادتها الذين ضُبطوا متلبسين بجرمهم المشهود في محرقة غزة. فمن قائل إن السلطة لم تطالب بتأجيل نظر التقرير لأنها لا تتمتع سوى بعضوية مراقب في مجلس حقوق الإنسان، ومن زاعم أن المصلحة الفلسطينية اقتضت التأجيل لضمان توفر إجماع على التقرير (!) قبل أن يضطر بعضهم للاعتراف بما أسموه خطأ في التقدير (!)، وليُتَوَّج الإرباك بإعلان السلطة عن تشكيلها لجنة تحقيق فيما حدث للتقرير وتحديد مسؤولية من طلب تأجيل مناقشته. وهو أمر مضحك من حيث إن هؤلاء التفريطيين يحاولون بيعنا بضاعة فاسدة وإلا من أين نزلت علينا، كعالم عربي، فجأة الديمقراطية اللامركزية، ثقافةً وممارسةً، بحيث يتطلب الأمر من السلطة الفلسطينية، التي تأخذ بها وفقاً لفرضية مخرجي فكرة لجنة التحقيق التي تفتَّق عنها عقلهم للخروج من المأزق، إنشاء مثل هذه اللجنة للوصول، وسط ‘تعقيدات اللامركزية الديمقراطية’ المزعومة إلى المسؤول عن طلب تأجيل مناقشة التقرير. باختصار القرار لدينا مركزي ولا داعي للف والدوران، فالمسؤول عن الإيعاز لطلب التأجيل معروف. الآن، لماذا يُفرِّطون؟ ما الذي يدفعهم للتفريط، بيعاً أو تنازلاً أو تهاوناً أو تواطؤاً أو ..، في الأمانة التي عملوا بشتى السبل وحلفوا بأغلظ أيمانهم بصيانتها والحفاظ عليها من أجل تسلمها؟ يقولون إن السلطة مفسدة، فما بالك لو كانت مركزية، مطلقة. ونحن نعلم كم هي شديدة المركزية تلك السلطات التي جمعها ومركزها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في يديه كرئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية ورئيس للسلطة الوطنية الفلسطينية، والتي أنتجت وفرخت أجهزة موبوءة بالفساد وفي ذات الوقت عصية على النقد لعملها باسم رئيس المنظمة والسلطة معاً. وعندما تكون سلطة بهذه المواصفات، منغمسة في الفساد و’البيزنس’ الذي لا يستثني المخرطين فيه حتى التعامل الاقتصادي مع إسرائيل التي هي العدو المفترض، فإن من السهل على هؤلاء الذين باتوا يسخرون من كلمة نضال، التفريط فيما ائتُمنوا عليه من أمانات. من سيحاسبهم؟ ببساطة لا أحد لأن أنظمتهم الداخلية معدة مكراً لمنع المساس بذواتهم ومصالحهم. كما أن النظام الإقليمي، وحتى الدولي، الذي يوفر الدعم المادي والسياسي لهم، ليس في وارد الخوض في شؤون داخلية معقدة جرَّب الاتحاد الأوروبي في سنوات سابقة إنشاء ضوابط للحد من هدر أمواله في دواليب الفساد المالي والإداري للسلطة في رام الله ولم يفلح في مسعاه.
صحيفة الوطن
24 اكتوبر 2009