المنشور

إعادة البناء في العالم النامي

كان لابد للعالم الثالث أن يعيد تجديد أنظمته، وقد توجهت دولٌ كثيرة لتغيير نفسها، ومواكبة الغرب في اقتصاده، فكلُ نظامٍ كان يسترشد بفكرة، وكان لابد لإعادة البناء على أسس حديثة من أن يزيلَ الهياكل الاقتصادية القديمة وقوى عمل السكان المرتبطة بتلك الهياكل التي تجاوزها الزمن الحديث، وأن يوظفها تبعاً لأسس الاقتصاد الرأسمالي الراهن، ويكيف قوى الثقافة لما يتطلبه هذا الاقتصاد من كوادر وطواقم إدارية ويهيئ حتى أجسام الأفراد لهذه العملية التحولية الشاملة. كانت العملية تتلخص في قدرة سلطات ما على تجميع الفوائض الاقتصادية وتوظيفها في أولويات اقتصادية كبرى.
لكن بين إدراك هذا المستوى وتطبيقه عاشت دول العالم النامي في تجارب كثيرة، صحيح أن “الفورمة” الغربية جاهزة على مستوى النظر، إلا أن الوصول إلى فهمها واستنتاج قوانينها وتطبيق ذلك على اقتصاد وبشر أمر مغاير تماماً.
أخذت قوى الشرق قرناً وأكثر في التعجب من الظاهرة الغربية، والتقاط بعض الانجازات المهمة المعزولة عن البناء منها، وقرناً آخر في رفض النموذج وتصعيد مفاهيمها الخاصة، وجرى عبر أفكار كثيرة.
حين قامت الامبراطورية العثمانية بإعادة بناء ذاتها تقلصت إلى الدولة التركية، وجمعت فوائضَها الاقتصادية في دولةٍ صغيرة نسبيا، أمكنها فيها تحويل نفسها إلى دولة حديثة.
والهند تمزقت إلى دول، كانت الدولة المنفصلة لا تؤمن بطريق التنمية الرأسمالية الحديثة وهي الباكستان، ولا بالدولة العلمانية ولا بالديمقراطية فظلت أكثر من نصف قرن تجربُ في لحمِ شعبها. في حين شقت الهند طريقها بتجريبية معينة ثم سلكت طريق الغرب بمواردها المحدودة وضخامة شعبها وتجني الآن ثمار ثورة اقتصادية نظير نموها المتدرج الديمقراطي.
إعادة البناء المصرية تمت بإزالة الملكية وتوجيه بعض الفوائض الاقتصادية لمشروعات نهضوية كبيرة وتحقيق إصلاح زراعي محدود وغير جذري، والإبقاء على الدولة الدينية التي تعني سيادة الذكور وسيادة الطواقم السياسية العليا فوق الإرادة الشعبية وعدم تحرير النساء وزج الفوائض الاقتصادية بقوة في عملية تنمية جذرية، فظلت تجربُ بلا فوائد نهضوية حاسمة.
إن الدولة العلمانية الديمقراطية كانت تعني جهازا مستقلا يحدد أولويات التنمية ويسرع الصناعات الكبرى، ويبعد القوى القديمة عن التدخل في مشروعات التنمية، ويحضر قوى عاملة كبيرة ذات أجور ملائمة تساعد على تنامي الفوائض الإقتصادية، عبر سن قوانين الضرائب والقيام بمشروعات خاضعة لمرئيات الناس عبر البرلمان، وتحديد خطط التعليم، ونشر ثقافة عقلانية.
وكذلك تعني حياد جهاز الدولة عن الطبقات المختلفة، فالمصانع لا تعود مثلاً لحكم جبهة التحرير الوطني الجزائرية وكوادرها وحين تهزم تثور خوفاً من فقدانها الامتيازات الاقتصادية.
حياد جهاز الدولة، وتبعية القطاع العام للبرلمان، وحرية القطاع الخاص، وقيوده، لا تنبع إلا من مشروعات قوانين لبرلمان منتخب كامل الصلاحيات، والخطط الاقتصادية الكبرى تُعرض على الشعب وتتم موافقته عليها أو رفضها عبر تأييد الحزب الذي يبرمجها في نشاطه الانتخابي بالتصويت له أو بعدمه.
هذه هي بعض مكونات الثورة الغربية في عالم الإنتاج، وسنلاحظ الفروق كبيرة بين دولة كالهند سارت على هذه الأسس الغربية ودولة أخرى رفضتها كالباكستان كما قلنا، ويُصور ذلك كأسبابٍ دينية ولكنها أسباب اجتماعية وعدم قدرة للقوى العسكرية والسياسية المسيطرة على تجديد طواقمها لهذه الحداثة.
تظهر قيادة بعيدة النظر وتخطط لذلك وتصنعه بشكل متدرج، وتصير إعادة البناء مخططة ومتدرجة وسليمة، لا تحدث عمليات الاضطراب، كإعادة البناء الروسية، أو المصرية الساداتية، فعمليات البناء مثل هذه مضطربة مدمرة بسبب غياب الفكرة الصحيحة وتشوشها السياسي، وتؤدي إلى كوارث في بعض الجوانب الاقتصادية، لعدم قبولها بالنمط الغربي الحديث بأسسه الاقتصادية المجربة عبر قرون الذي هو إنجاز لتراكم الخبرة البشرية عامة.

صحيفة اخبار الخليج
24 اكتوبر 2009