المنشور

ألوف من الخيوط تشدنا

لا يتنبه الإنسان إلى قوة عاداته وسطوتها، إلا في اللحظة التي يختل فيها نظام هذه العادات. وهذه الأخيرة من الاتساع بحيث تشمل العادات اليومية المكررة، كالمواعيد الثابتة للأكل وللنوم وللاستيقاظ، وموعد شرب القهوة ، مثلما تشمل ما هو أعمق من ذلك بكثير كأسلوب التفكير وطريقة التصرف إزاء الأمور. العادة، أو مألوف التصرف مريح أو غير متعب ولا يتطلب جهداً، لأنه يشبه إلى حد كبير الأداء الآلي. وكان الكاتب الايطالي ألبرتو مورافيا قد كتب في “الاحتقار”، إحدى رواياته المعروفة كلاماً مهماً عما دعاه الآلية التي تتيح لنا أن نعيش بلا تعب يتجاوز الحد، لأننا إذ نقوم بالأمور الاعتيادية وبصورة روتينية فإننا غالباً ما نفعل ذلك دون تفكير أو لا نكون واعين لما نفعل. «إن خطوة واحدة – يقول مورافيا – تتطلب تشغيل كمية من العضلات، ومع ذلك فنحن نقوم بها من غير أن نعي ذلك، بفضل الآلية”. والظاهر أن المرء لا يبدأ في حساب خطواته إلا في اللحظة التي يعي فيها هذه الخطوات، في اللحظة التي تكف فيها الآلية السابقة عن الدوران، فتجد أن الكثير من الأشياء التي كنت تقوم بها بطيب خاطر تستوقفك وتسترعي انتباهك وتثير في ذهنك الأسئلة عن مغزاها، وتمثل تفاصيلها أمام ناظريك فتستأثر بتفكيرك، وربما حملتك على التساؤل كيف كنت تفعل مع كل هذه الأشياء سابقاً دون أن يستوقفك السؤال أو لم تفكر مرة عن سر القدرة في قيامك بكل ذلك دون أن تشعر بأنك تبذل جهداً. في المعرفة يجري الحديث عن “قوة العادة” بوصفها كابحاً لتطور هذه المعرفة، لأن الانسياق وراء المسلمات والبديهيات وما استقر عليه المرء يجعل أداءه سهلاً ومريحاً وغير مكلف، لكن تجاوز المسلمات أو مناقشتها أو الشك بها هو الذي يسبب القلق وارتباك السلوك. وتدل التجربة ان مثل هذا التجاوز لقوة العادة غالباً ما يكون نظرياً، أو لنقل أنه محاولة للتجاوز وليس تجاوزاً فعلياً، فالمحاولة قابلة للتعثر ولا بد من تكرارها ليصار إلى إتيانها بالصورة الأمثل ولا نقول المثلى. وكثيراً ما نقرأ ونسمع ونشاهد مظاهر على ما أصبح يعرف بازدواجية المثقفين، الذين يبدون، حين يتعلق الأمر بالخطاب العلني، متجاوزين للعديد من الأطروحات والأفكار التي يعدونها بالية، ويبدون شديدي الحماس للآراء والأفكار الجديدة التي اكتسبوها من صلتهم الوثيقة بالفكر واستنشاقهم العميق لهواء العصر، ولكنهم، حين يتصل الأمر بالممارسة يبدون أبعد ما يكونون عن الأفكار التي يجهرون بها. ولهذا الأمر بالذات صلة بسطوة العادة السابقة، لأن هؤلاء الناس غير قادرين، حتى لو أرادوا، على الانسلاخ الفوري عن مؤثرات تكوينهم الأولي، وثمة ألوف من الخيوط المرئية وغير المرئية التي تشدهم إلى هذه المؤثرات وتحد من انطلاقهم الحر، الفعلي. كان أحد الفلاسفة يقول إن دلالة إتقان المرء لأي لغة أجنبية يتعلمها هو أن يفكر بهذه اللغة حين يتكلم بها لا بلغته الأم، وحال الانسان القادر على تخطي تجاوز مصادر ازدواجيته هو حال من أتقن لغة أجنبية فصار يفكر عبرها حين يتكلم بها، وهذا كما نعلم يتطلب مراناً وتدريباً طويل الأمد.
 
صحيفة الايام
24 اكتوبر 2009