لكل رأسمالية حكومية شرقية توجه وطني بطبيعة تنافسيتها مع الرأسماليات الغربية المسيطرة على السوق الداخلية خاصة، وتلعب الفئات الوسطى الصغيرة دور المنظم لهذه الأبنية في كثير من الدول، وأي دور ريادي وطني لها يتم بالتحالف أو بالتعاون مع العمال. وحتى لو كانت الأنظمة ناشئة فإن حراكَ الفئات الوسطى والعمال المشترك يفرضُ تحولاً وطنياً في أغلب البلدان ومن أهم مظاهره نشوء الرأسماليات الحكومية، التي تتكونُ لها مساراتٌ تاريخيةٌ مختلفة حسب البلدان. وبعد التطورات التاريخية فإن الانفصالَ بين هذه القوى السكانية وقمم الحكومات يغدو حتمياً.
فهناك تضخمٌ في الثروات الفوقية، وانفصالاتٌ عن خرائط السكان، وتباعدٌ بين المركز السياسي الحكومي الكبير المسيطر وبين الأقاليم والمناطق.
وفيما كان الحراك في مرحلةِ تأسيس الرأسماليات الحكومية يتسمُ بالتضامن الوطني الواسع بهذه الدرجة أو تلك، فإن الاضطرابات الاجتماعية تعقب هذه الفترة حين تحدث المشكلات السابقة الذكر.
نريدُ أن نركزَ هنا في طبيعة القوى القائدة لهذه العملية، فالفئاتُ الوسطى الصغيرة والعمال كانت دائماً منتجةً للحراكِ السياسي، وعلى الأفكارِ الموضوعية والتكوينات السياسية المقاربة للنسيج السكاني الوطني، وعلى مدى التعاون بينها تحدث عمليات التقدم الوطنية الكبيرة.
إن تشكل الرأسماليات الحكومية الذي يتسم بطابع شمولي غالباً، ينشأ من أفكار شمولية: قومية، ويسارية، ودينية، وتصوغها جماعاتٌ من البرجوازية الصغيرة، التي تجمع بين الثقافة والعمل، وترتبطُ بالقوى العليا والجمهور الفقير معاً، وفي مرحلةِ البناء الوطني لإقامة تلك الرأسماليات الحكومية، يتشدد هذا الوعي في آرائهِ بغرضِ تجميع أكبر عدد من السكان ومن قوى العمل والفوائض الاقتصادية.
وفي مرحلة التحول الراهن لأنظمة الرأسماليات الحكومية الشرقية يبدو التناقض واضحاً بين الرغبة في التغيير والعجز عن تنفيذه. فهذه الأنظمة تجذرت في ملكيات بيروقراطية مليئة بالفساد، وفي أشكال من الإنتاج المتخلف، أي الاعتماد أساساً على تصدير المواد الخام المتنوعة، وهي في حالة تناقض مع مستويات الإنتاج العالمية المتطورة وسهم العمل الصاعد باتجاه قوى العمل العلمية.
هنا تغدو قوى التغيير: الفئات الوسطى الصغيرة منتجة الوعي، والعمال قوى التنفيذ، في حالات من التفكك والصراعات والغياب عن الإنتاج السياسي الفاعل.
إن أي بناء وطني تحولي كبير يعتمد في هذه الأنظمة على مواقف القوى الاجتماعية الكبيرة: الرأسمالية الحكومية، والرأسمالية الخاصة، والعمال. وهي كلها أشكالٌ لقوى العمل المتراكمة أو الحية.
وتغدو قوى البرجوازية الصغيرة منتجة الثقافة والمسارات السياسية في أثناء عملية تفكك الرأسمالية الحكومية، ونمو الرأسمالية الخاصة بعد عهود الشمولية، مشتتة الاتجاهات، في هذا البرزخ الاجتماعي المعقد. ففئاتٌ منها تسعى للاستفادة من التحول لمصالحها الخاصة، عبر الرأسماليتين السابقتي الذكر، وفئاتٌ تردد المعزوفات القديمة وتبحث عن روافع اجتماعية فقيرة تحملها تذاكر التضحيات، وثمة أجسام صغيرة تحاول تحليل الأزمة وإيجاد مخرج موضوعي ديمقراطي وطني لها.
إن النمو الكبير للقطاعات الخاصة وضخامة الفساد الحكومي وبحثه عن عمليات إنقاذ، تجعل الليبرالية – الحكومية كبيرة الصوت، وهو تيارٌ يرفع شعارات الليبرالية بدون حسم كلي، وفي عمليات تناغم بين فئات معينة والجسم الاقتصادي الحكومي والجسم الرأسمالي الخاص.
إن تضخم الرأسمالية الحكومية يعني تلك العمليات التفكيكية للوعي الوطني وللأقاليم وحدوث أخاديد كبيرة في مستويات المعيشة بين الأغنياء والفقراء. وهو أمرٌ يصعدُ أشكالَ الوعي السابقة خاصة المذهبية السياسية، التي تُحدثُ عمليات تفكيكيةٍ أعمق. فتستفيدُ هنا فئاتٌ أخرى من البرجوازية الصغيرة في عمليات الصعود الاجتماعية. وهناك سيناريوهات أكثر فظاعةً فيما نراه من حروبٍ أهلية في دولٍ عديدة كالعراق واليمن والسودان وغيرها. ومع طول الأزمة بشكلٍ سياسي وعدم حلها فإنها تنتقلُ بعد هذا إلى الشكل العنيف.
تتآكل حلقاتُ التحالف الاجتماعية بين قوتي التغيير، البرجوازية الصغيرة والعمال، مع انجرافِ الفئاتِ الأولى لمصالحها الخاصة أو لخطط غير واقعية في الحياة السياسية، ولعدم فهم عمليات تفكك الرأسماليات الحكومية، كذلك فإن إنجرار عمال المناطق المتخلفة والمغبونة إلى أشكال الوعي الدينية أو القومية المتعصبة، يقود ذلك إلى تخلخل وعجز عملية إعادة البناء، وتستمر حالات التفكيك في الجسم السياسي العام، خاصة مع عدم وجود قوى رأسمالية خاصة ذات إنتاج وطني كبير.
وعلى مدى ظهور رأسمالية حكومية ديمقراطية منتجة فوق الجسم الوطني ككل، وعلى مدى وطنية الرأسمالية الخاصة وإنتاجيتها المتجذرة في العمال المحليين والصناعات الحديثة، وعلى نضالية العمال في إيجاد ذلك وفي برمجته سياسياً، تتوقف إعادة البناء الوطنية العميقة.
وفيما يبدو ان الرأسمالية الحكومية هي الأكبر لكن هي في حالة تحلل مستمرة، وستظهر ذات يوم وقد أفلست، فيما كبرت الرأسمالية الخاصة، ولكنها لا تقبل بالمحاسبة الديمقراطية وتحتفظ بالعامة كهياكل خاوية أو مظهرية، ويتجلى ذلك في غياب وسائل الجرد الدقيقة، وبقاء أشكال استبدادية سلطوية مستمرة، وفي ترحيل الأموال.
صحيفة اخبار الخليج
19 اكتوبر 2009