نعم هي مفارقة تلك التي كشف عنها مؤخراً، سليل شيتي مدير حملة ألفية الأمم المتحدة والتي تناول فيها حجم ما أنفقته الدول الغنية على الدول الفقيرة خلال نصف القرن الماضي. إذ أوضح أن الدول الرأسمالية المتقدمة قدمت مساعدات للتنمية بلغت 2 تريليون دولار، على مدى نصف القرن الأخير، بينما قدمت حكومات هذه البلدان في عام واحد فقط 18 تريليون دولار لمساعدة مصارفها ومؤسساتها المالية!.
وهو محق بلاشك فيما ذهب إليه بأن من المستحيل على حكومات الدول الغنية أن تدعي افتقار العالم إلى المال لإعانة 50 ألف إنسان يموتون من الفقر المدقع يومياً.
بدوره تناول بان كي مون أمين عام الأمم المتحدة هذه القضية في خطابه الذي ألقاه أمام اجتماع الجمعية العامة يوم 26 يونيه الماضي الذي كُرِّس لمناقشة الأزمة الاقتصادية العالمية، وإن بشكل دبلوماسي، حيث ذكر أنه ‘إذا كان العالم قادراً على حشد أكثر من 18 تريليون دولار لانتشال القطاع المالي، فإنه بالتأكيد قادر أيضاً على حشد ما هو أكثر من ذلك للوفاء بالتزاماته التي كانت تعهد بها تجاه أفريقيا’. وكان يشير بذلك إلى المساعدات التي كانت تعهدت بها الدول السبع الكبرى في قمتها في غلينايغيل بأسكوتلندا عام ,2005 والتي لم يتم الالتزام بها، إذ سجلت تلك المساعدات عجزاً يصل إلى 20 مليار دولار. هكذا هي أصول التفاوض، التحشيد والتعبئة وتسليط أكبر قدر ممكن من الأضواء على القضية المراد تثبيتها على رأس أولويات الأجندة العالمية.
ويمكن القول إن اللوبي الأممي الذي حشد من أجل أفريقيا طوال المداولات واللقاءات التي رُتّبت قبل قمة الثمان الكبار في إيطاليا، قد نجح بامتياز واقتدار في تحقيق هدفه. حيث اضطر كبار نادي الأغنياء في العالم خلال قمتهم التي عقدوها في لاكويلا بإيطاليا خلال الفترة من الثامن إلى العاشر من يوليو الجاري، إلى إقرار حزمة مساعدات لأفريقيا بقيمة 5,16 مليار دولار ستقدم على مدار 3 سنوات من أجل إنهاض القطاع الزراعي في القارة.
ومع أن هذا المبلغ يعكس مدى بخل الدول الرأسمالية الكبرى الغنية تجاه الدول الفقيرة التي كانت يوماً ما كنزاً مفتوحاً لهم يغرفون ما يشاؤون من ثروات باطن أراضيها ومحصول أراضيها الزراعية، إلا أنه يعد مكسباً انتُزِع منها انتزاعاً.
على أننا لو وضعنا هذا المكسب في إطاره الموضوعي فإنه في المحصلة سيضمحل إلى حده الأدنى نظراً لأن جل ذلك المبلغ سيذهب هباءً بعد أن تبتلعه أسفنجة الفساد المالي التي أحالت معظم دول القارة الأفريقية إلى مجرد أشباه دول ليس فيها من مقومات الدولة الحديثة سوى العلم والنشيد الوطني والعملة الرديئة والعضوية الشرفية في هياكل النظام الدولي.
الإعلام البريطاني الموالي يركز حملاته الهجومية اليومية على روبرت موغابي رئيس زيمبابوي باعتباره دكتاتوراً أفلس باقتصاد بلاده ووضع شعبه أمام شبح المجاعة. هذا فقط لأنه تعدى على المصالح البريطانية في زيمبابوي، ولو لم يفعل ذلك فإنه سيبقى صديقاً كباقي الأنظمة الشبيهة له في القارة السمراء وفي غيرها من المناطق.
فرنسا وحدها ترعى عديداً من الأنظمة الأوتوقراطية في القارة الأفريقية، وهي لازالت تمارس دور ‘المستعمر الظل’ الذي يمتلك قواعد عسكرية ويتمتع بامتيازات في الصناعات الاستخراجية لا نظير لها، خصوصاً لشركتها النفطية الوطنية ‘توتال’ وفي الإنتاج الزراعي، وهنالك قصص عن علاقات غير طبيعية بين المخابرات الفرنسية وبعض أوساط قطاع الأعمال الفرنسية وعدد من رؤساء الدول الأفارقة تصل تفاصيلها لحد تحكم فرنسا ليس في الصفقات المعقودة وبحسب وإنما في السياسات الاقتصادية والنقدية المعتمدة.
منتهى القول، إن المساعدات المالية المقرة للدول الأفريقية إذا ما تم تسليمها عبر القنوات الرسمية الحالية فإنها لن تعمل سوى على تعزيز مواقع الفساد والفاسدين في بلدان القارة المنكوبة بحكم ‘أبنائها’.
لذا آن الأوان لكي تتوقف الأسرة الدولية عن تقديم الدعم للدول الفاسدة ومساعدة حكامها على إدامة إفقار بلدانها وشعوبها. ولابد من إنشاء آلية دولية تضمن توجيه المساعدات إلى الأوجه الاتفاقية الموجهة نحو بناء البنى التحتية والبنية التعليمية والصحية وإنشاء وحدات وأنشطة اقتصادية تتسم بالاستدامة وتستوعب قوة العمل المؤهلة والنشطة اقتصاديا.
صحيفة الوطن
18 اكتوبر 2009