للإنصاف والأمانة الموضوعية ليست مملكة البحرين هي الدولة العربية الوحيدة التي سلطتها وجهازها القضائيان بحاجة اليوم الى التجديد والاصلاح، بل كل الدول العربية بلا استثناء باتت تعوزها هذه المهمة الملحة وإن بدرجات متفاوتة، ولربما جاءت البحرين أفضل من غيرها نسبيا في المشكلات والاشكاليات المرتبطة بإصلاح المؤسسة القضائية، وما ينطبق على الدول العربية من حيث الحاجة الملحة إلى إصلاح القضاء ينسحب على دول العالم الثالث السائرة في بدايات طريق النمو الديمقراطي والتنمية السياسية الاصلاحية الحديثة.
مناسبة هذه المقدمة التي نسوقها هي الحدث القضائي التاريخي، بكل ما في الكلمة من معنى، الذي شهدته مملكة البحرين خلال الاسبوع الماضي والمتمثل في الحكم الذي أصدرته المحكمة الكبرى بتبرئة جميع المتهمين الموقوفين التسعة عشر من تهمة قتل الشرطي الشاب المغدور ماجد أصغر في حادث انفجار وحرق سيارة الشرطة بقرية كرزكان التي كان المغدور الضحية يستقلها أثناء تأدية واجبه بصحبة رفيقين له فيها وذلك في التاسع من ابريل من عام 2008م. فلم يسبق في تاريخ القضاء البحريني، ورغم ما يتمتع به من استقلالية ونزاهة لا تقارنان بالعديد من السلطات القضائية في الانظمة الشمولية بالعالمين العربي والاسلامي، ان أصدر حكما في قضية جنائية خطيرة ذات أبعاد سياسية واجتماعية حساسة بهذا التجرد والموضوعية والنزاهة والاستقلالية التامة كالحكم الذي أصدرته المحكمة المذكورة التي برأت الموقوفين جميعا واطلاق سراحهم فورا، وذلك بعد مرور ما يقرب من عام ونصف العام على سجنهم.
والاهم من ذلك ان المحكمة لم تتوان في اثباتها أن لا سلطان عليها في حكمها سوى ضميرها المهني عن الجهر من دون أدنى مراوغة بحيثياتها الموضوعية النزيهة الشجاعة التي دفعتها لاصدار هذا الحكم، وعلى الاخص ما ساقته في حيثياتها من وجود “تجاوزات” شابت العملية التحقيقية مع المتهمين تتنافى مع الدستور والقانون البحرينيين ولا تستقيم بأي حال من الاحوال مع شعارات المشروع الاصلاحي وما تتمتع به مملكة البحرين في هذا الصدد من سمعة طيبة كبيرة في الديمقراطية وحقوق الانسان، دع عنك سائر الحيثيات التاريخية المهمة الاخرى التي ساقتها المحكمة ذاتها، ومنها افادات الطب الشرعي وما وقع فيه شاهدا الاثبات من تناقض، سواء أكان مقصودا أم عفويا، فلا دخل للمحكمة في ذلك، وانكار المتهمين جميعهم التهمة وعدم الاعتراف بذنبهم فيها ومن ثم انتفاء أهم أركان الادلة وسيدها ألا هو “الاعتراف”، هذا الى جانب الحيثيات الاخرى التي نشرتها صحافتنا المحلية في اليوم التالي من صدور ذلك الحكم القضائي التاريخي المشهود.
ويمكن القول ان المؤسسة القضائية البحرينية بصدور هذا الحكم نالت سمعة جديدة تعزز سمعتها في النزاهة والتجرد والاستقلالية، ذلك بأن حكما قضائيا في قضية جنائية ذات أبعاد سياسية اجتماعية وبتلك الحيثيات الجريئة المعلنة في تبرئة المتهمين هو من الاحكام القضائية النادرة جدا في كل دولنا العربية منذ بناء الدولة العربية الحديثة في البلدان العربية بعد نيل استقلالاتها، وما عانته وتعانيه هذه الدولة العربية من سمعة مشوهة مزمنة في مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث وتأكيد وترسيخ مبدأ استقلالية السلطة القضائية.
واذا كان يحق لمملكة البحرين ولسلطتها القضائية ان تفتخرا بصدور مثل هذه الاحكام القضائية التي تعكس وتؤكد استقلالية ونزاهة الاخيرة مما يعزز ويضيف لسمعة المملكة دوليا في مصداقية تطبيق مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث وتمتع كل منها باستقلاليتها الحقيقية، فإن هذه القضية لا ينبغي ان تغفلنا بأي حال من الاحوال عن الحاجة الى زيادة وتعميق العملية الاصلاحية الشاملة في مؤسستنا القضائية التي تعد الاعرق في دول مجلس التعاون، من دون التقليل مما تم احرازه حتى الآن من منجزات اصلاحية فيها. ذلك بأن العملية الاصلاحية في المؤسسة القضائية في أي دولة من دول العالم، مهما قطعت شوطا كبيرا من التطور والنضج الديمقراطيين، هي عملية تراكمية لا تكتمل ولا تنتفي الحاجة اليها في أي مرحلة تاريخية، كبرت هذه الحاجة ام صغرت.
فاليوم فإن تعميق وزيادة اصلاح المؤسسة القضائية لم يعودا مقصورين على القضايا الامنية والسياسية من حيث ان الاصلاح هو مهمة آنية شاملة وحاجة ملحة طال اهمالها بل تشمل مختلف القضايا والمحاكم والتشريعات المتصلة بقضايا المرأة وقضايا الصحفيين والنزاعات التجارية.. الخ، فكل الفئات ذات العلاقة بمثل تلك القضايا والمحاكم والتشريعات تنادي بهذه الحاجة الملحة لتطوير وتعميق اصلاح مؤسستنا القضائية لتتواكب مع روح العصر ومع شعارات المشروع الاصلاحي.
ولنا فيما أعلنه العاهل المغربي محمد السادس في مناسبة يوم العرش من خطة جديدة لإصلاح القضاء “لضمان استقلاله وتحديث منظومته وتأهيل مكوناته وتحصين ممارساته” – على حد تعبير العاهل نفسه – خير قدوة في ذلك، ولاسيما ان جلالة الملك سبق ان نوه اثناء زيارته للمغرب في الصيف الماضي بالتجربة المغربية الاصلاحية ذاتها، ومنها انجاز مدونة المرأة، واعتبر ما مفاده ان تجربة هذه الدولة الشقيقة مثال للحكم الرشيد الصالح والمملكة الدستورية الديمقراطية العصرية.
صحيفة اخبار الخليج
18 اكتوبر 2009