تولد المشاريع التاريخية العظيمة والكبرى من مبادرة لفكرة صغيرة، يخلقها الظرف التاريخي أو الشخصية التاريخية، وأحيانا اللحظة التاريخية، التي قد تجمع مجموعة متباينة ومنسجمة في نفس الوقت، على القيام بما هو ضروري لتأطير تلك الأفكار/الفكرة . ولكن ما الذي يجعل تلك القاطرة تنطلق أولا ومن ثم تستمر ثانيا ؟ فهذه مسافة أخرى نحتاج التوقف عندها حول تاريخ أسرة الأدباء، التي تحتفل الآن بأربعين عاما من التأسيس. كانت البحرين في هذه الفترة تختمر فيها أمور كثيرة وحبلى بأشياء عدة، وتنتظر مولود كبير سيضع لبنات دولة البحرين الحديثة ، ووجدناه في مربع “ الاستفتاء “ الاستقلال الدستور والبرلمان.
في هذه الحاضنة الجديدة ـ الأسرة ـ ستلتف الوجوه الشابة ، والتي تخرجت من المدارس السياسية الحزبية وبشهادات ثانوية، بل وحتى الذين في فترة التأسيس لم يكونوا متورطين بالانتماءات، فان بعضهم سبق له وان عاش تلك التجربة السياسية وبات شخصية وطنية تتعاطف مع الهم الوطني والفكري والثقافي . يومها كانت الأسرة على تماس بالشارع وغليانه، وبالفعل كانت “الكلمة الحرة” هناك تتحسس شعبنا وتتحسسه وبتعبير قاسم حداد “وطني أحسك لا أراك” ، فالقصيدة في ندوات ساخنة تعلن تمردها وتمارس التحريض المبطن والمكشوف، بل ولا نحتاج لتفكيك عناوين القصائد والقصص والدواوين والإصدارات لكي نكتشف الحقيقة، فكلها كانت عناوين نارية وثوروية ترى في حركة التقدم التاريخي هدفها الأسمى للإنسان /الكلمة . كانت الحاجة والدوافع والضرورات الفكرية أهم من أي شيء، فلم تلتفت تلك الأسرة »اليتيمة بلا عراب / أب« يومها لمن ظلوا من بعيد يصفقون لها ويكتمون حبهم مثلما كان البعض منهم ساخطا وأنانيا لا يجيد إلا فن الاصطياد في الماء العكر .
لقد شهدت الأسرة بين عامي 69 ـ 72 فضاء سياسي ساخن، ابتداء من الاستفتاء بمصير انتماء البحرين ، مرورا بحوارات واجتماعات المجلس التأسيسي، ومسيرة مارس العمالية والتي أقلقت مضاجع الأمن لمدة أسبوع . فهل بإمكان كتاب وأدباء الأسرة عزل أنفسهم عن مشاريع وطنية وفكرية وثقافية أفرزتها تلك المرحلة ؟ وهل الدور الأدبي والإبداعي سيتلازم مع ذلك المناخ أم يبقى خارج الصراع متفرجا ؟ سلاح الكاتب قلبه ولسانه وموقفه في لحظة تاريخية ما عندما يصبح شكسبيريا ووجوديا وكونيا »بنكون أو لا نكون«، وستكون أدوات التعبير التي يملكها إحدى أسلحة تلك المعركة والتحولات .
في هذا المناخ المتسارع 69 ـ 72 سيكون المؤسس الأول الدكتور الأنصاري، منشغلا بخصوصيته الأدبية وتطلعاته الدراسية والمهنية، فعاش على هامش الأسرة، فقد كان في داخله شخصية متجاذبة ومزدوجة مثل كل مثقفي المرحلة، رجل هنا ورجل هناك، قلب هنا وعقل هناك، حتى كنا نقول انه اختفى من المشهد المحلي كعضو فاعل للأسرة ، وليس كشخص في الوطن أو خارجه، فانا لا أتحدث عن الكتابات الخاصة في هذه المجلة أو تلك ، وإنما بالدور المؤسساتي داخل الأسرة لشخص مؤسس ، وضع حجر الأساس ثم ارتدى طاقية الإخفاء .
في هذه الفترة ستكون الوجوه والأصوات الشابة للأسرة هي وحدها من وقف في خندق اللحظة ، وتمسك بالأسرة وقاد مسيرتها بصورة جماعية، ستكون القوى السياسية، كالجبهتين الشعبية والتحرير هما “الأب الروحي” الرمزي والدلالي لتلك التجاذبات والنزاعات والاستمرارية في وحدة التنوع والنقيض والصراع . ذلك الجدل التاريخي للأسرة هو حقيقتها التاريخية، وسيكتشف الأدباء والكتاب طريقهم الجديد كجيل شاب، وهم يمزجون بين توليفة حياة الانتماء السياسي – والتعاطف السياسي والوطنية ، والرؤية الملتزمة لنموذج الفن والأدب الإنساني الواقعي.
هكذا وضعت اللحظة التاريخية الأدباء الشباب أمام مصيرهم وحلمهم الإبداعي “ الآني والمستقبلي” وصار بعضهم الحلاج وصار بعضهم نيرودا ولوركا، وامتص قلبه وشعره وأدبه وكيانه ثقافة التمرد من اجل الحرية ، تلك الكلمة الحلوة .
صحيفة الايام
18 اكتوبر 2009