العلمانيةِ لم يكن معروفاً في
اللغة العربية، فتراثُ العرب
يجهله، مثل مصطلحات حداثية غربية عديدة، فالبنية
العربية الاجتماعية العامة لم تعرف الحداثة كبنية، بل كأجزاء مفتتة،
وكمحاولاتٍ مُجهضة.
(فالعلماني
هو الشخص الذي يهتم بهذه الحياة
الدنيوية ويتحركُ بمقتضى معيشته
الدنيوية ولا يفكرُ في شيءٍ آخر ولا يعمل من أجل هدف آخر
ولا يملك حساباً في حياته خارج هذه الدائرة. هذا هو معنى العلمانية
بشكلٍ دقيق)، عبدالكريم سروش، التراث والعلمانية، ص 98، دار الانتشار
العربي.
)تارة تـُقرأ بفتح العين “عَلمانية”
فمادتها علم(،
فهي مأخوذة من عَالم، أي
التمظهر بمعالم الدنيا. (أما القراءة الأخرى لهذه المفردة بكسر
العين ‘عِلمانية’ تقرأ بالكسر)، تعطي معنى العلمي(، السابق، ص .94
دخلت لفظةُ (سكولاريسم) العربيةَ
منقسمةً، وبالأحرى فإن
مثقفي العرب في مرحلة التنوير
انقسموا حولها، دخلتْ الحركاتُ العربية
الإعرابيةُ فيها، فتباينتْ
القراءاتُ لها.
إن تباين القراءات هو جزءٌ من تباين المواقف وتحولاتها، ودائماً تأتي المصطلحاتُ
الغربيةُ من بُنيةٍ
غربيةِ ذاتِ تطورٍ تاريخي
مختلف، تحملُ مضامينَ زمنيتها في تلك البنية، لتدخل بنيةً
عربيةً ذات سيرورة مختلفة، ويتم النقلُ من دون إدراك للفروق ولبصمات
التاريخ عليها.
لم يكن للإسلام تلك الهوة التي
وجُدت في أوروبا
العصور الوسطى بين الدين
والدنيا، كانا مختلطين متداخلين، ولم يكن ثمة طبقة كهنوتية
حسب الإسلام الأول المؤسس، كان هذا المؤسسُ يتعمدُ التباينَ عن المسيحية
الرهبانية، والافتراق عنها بالبشرية الدينية الأرضية الطينية الفرحة
بالعالم، كان مشروعه أمة مختلفة، شعبية، لا ملأ فيها، ولا تناقض بين صورتي العالم، صورة العيش الراهن وصورة الخلود. ولا
فصل للدين عن الحياةِ، والحكمِ، والحكمُ غيرُ مفصولٍ عن
صنع الناس. عبر رؤى القرون
القديمة المسيرة حسب خطط الغيب
المصنوعة المتداخلة في مادتها بفعل البشر. وقد جرتْ هذه
الصورةُ الدينيةُ خوفاً من عودة الملأ، لكن الملأ عادَ مع هذا وصاغ
الدينَ الرسمي.
والكثير من الشعوب قامت على
خلاف تاريخ المسلمين اللاحق الرسمي، فصلتْ مؤسسات الدين
عن الحياة الاجتماعية، لم
تجعل مؤسسات الدين تتدخل بشكل
يومي ودائم في حياة الناس.
لكن هذا العام لم يكن كلياً فرجال الدين يتدخلون في حيوات الشعوب
بأشكالٍ مختلفة، بعضها
خارجي تثقيفي، وعبر منعزلات: غابات
البوذيين، والرهبان في الديانات
الهندية، وأديرة الرهبان المسيحيين
في آسيا وأوروبا وافريقيا. وقد صعدت
الكنائس في العصر الوسيط
الأوروبي وقامت بحكم شامل عبر كنيسة روما، بعد أن اختلف الأمراء
وتفتت الدول، أي بعد انهيار أهل السياسة. وهكذا فقد عرف أغلبُ الشعوب
العلمانيةَ كجذورٍ سياسية، وحين تحكمتْ الكنيسةُ الأوروبيةُ في كلِ شيء،
وظهر مثقفون وبشرٌ خارجَ سيطرتِها أطلقتْ الكنيسةُ عليهم لفظةَ
علمانيين، أي أهل دنيا وليسوا أهل آخرة. بعد أن احتكرتْ الكنيسةُ الدنيا والآخرة. وتفاقم هذا التناقضُ بين أهلِ الدنيا
وأهل الدين، بين
الطبقات الوسطى الجديدة التي
تريد حياةً، وأصحاب الضياع الكنسيين
والملوكيين المسيطرين على
الحياة وخيراتها، ووصل لدى الطلائع إلى عداء هائل، وافتراق.
كان هذا هو المصدرُ الأوروبي للفظة العلمانية.
ولم يفهمْ بعضُ
المثقفين العرب هذا المصطلح على هذا النحو وهو يأتي مدموغاً بالقفافيز
الحديدية لكنيسة روما، لأنهم كانوا يزاوجون بين الدين والدنيا، لم يشعروا بوجود كنيسة متسلطة عليهم، وكانوا يرون الدولة
العثمانية المحتلة والدول الغربية كعدو. وكان العديد من
رجال الدين يشاركونهم الصراع
الوطني. لهذا فإن القراءة
الأوروبية تعدلت عندهم. لكن القراءة الأخرى راحت تنمو.
أخبار الخليج 16 أكتوبر 2009