كان قد مضى على هزيمة الخامس من يونيو / حزيران 1967 عامان فقط. وقع الهزيمة في النفوس كبير، لكن النفوس نفسها لم تنكسر، أو لعلها لم تكن قد انكسرت بعد يومها. المكان: دمشق، والمناسبة: مهرجان للمسرح العربي، والزمان: عام 1969، وشخوص الحدث ثلاثة: الراحلان نجيب سرور وممدوح عدوان والكاتبة صافي ناز كاظم الذين انعقدت بينهم خلال ذلك المهرجان صداقة جميلة. كان الثلاثة شباباً بين منتصف العشرينات حتى منتصف الثلاثينات من أعمارهم، ولم تقو برك الأحزان في نفسي ممدوح عدوان ونجيب سرور على كسر روح الدعابة والسخرية المرة من كل شيء، بما في ذلك من وقائع المهرجان الذي كان الثلاثة يشاركون فيه. أكثر من ذلك لم تقو هزيمة حزيران على مصادرة الأمل لديهم. قول ممدوح عدوان كان لسان حالهم: “انتظر الحلم القادم من ليل الموت/ لا بأس إذا انتظر اليائس عاما أو عامين”. كان المؤمل ألا يطول الانتظار، لكنه طال، طال كثيراً، وليس هنا محل إعادة سرد بقية الحكاية المعروفة. اتفق الثلاثة على زيارة مدينة تدمر السورية. كانت صافيناز كاظم شغوفة بأن ترى المدينة التي حكمتها زنوبيا، لترى كيف هي المدينة التي حكمتها امرأة، فطلبت من ممدوح ترتيب الزيارة التي وافق عليها نجيب سرور أيضاً، وهو بعقب بروحه المصرية الصميمة الساخرة: “وهي اسمها تدمر ليه؟ كانت بتدمر إيه؟”. ليست تدمر قريبة من دمشق كما حسب نجيب سرور وزميلته، ولكن الثلاثة بعد طريق طويل وصلوها ليتفقدوا بقايا زمن عظيم ولى. منذ شهرين أو ثلاثة روت صافيناز كاظم حكاية هذه الرحلة في مقال لها ب«الهلال”. كان عليها تعداد الفقدانات الكثيرة: الشباب المفعم بالآمال والشقاوة الذي ولى، المبدعين المتألقين اللذين رحلا: نجيب وممدوح، الأول في نهاية السبعينات الماضية مسكونا بالخيبة والفجيعة، والثاني الذي كانت قد التقته قبل رحيله في ردهات مؤتمر بالقاهرة أقامه المجلس الأعلى للثقافة فلم تتعرف عليه بعد أن هده السرطان، فكتبت تقول : “لم يعد صديقي، فصديقي هو الشاعر الشاب الذي كان وجهه زاهيا كاللؤلؤة”، هو الذي هتف يوما: “سأظل كآخر قنديل/ بفتيل لا يتعبه التلويح/ مرتعشا في العتمة حتى تطفئني الريح”. كان عند وعده، انه مثل نجيب سرور قنديلا من قناديلنا النادرة التي صمدت بوجع عسف الريح حتى آخر رمق، فهل تهبنا الحياة قناديل بديلة تضيء وحشة أعمارنا وسط هذا الخراب العربي؟
صحيفة الايام
15 اكتوبر 2009