منذ عامين نشرنا في مجلة “البحرين الثقافية” ملفاً عن ذاكرة المكان شارك فيه أدباء ومثقفون وفنانون بحرينيون عن علاقتهم بالمكان، ومن بين الشهادات التي حواها الملف مقتطفات من كتاب الفنان التشكيلي المعروف عبد الكريم العريض: “حصاد الفن” الذي تحدث فيه بشكل حميم عن علاقة أعماله التشكيلية المبكرة بمفردات العاصمة التي نشا فيها في بيتهم القديم القريب من سوق الطواويش. في الملف أيضا كتب بدر عبدالملك عن ذاكرة المنامة انطلاقاً من منطقة الحورة التي كانت تغتسل كل صباح بالبحر يوم كان ثمة بحر في البحرين، وقادنا بدر إلى الكثير من مفردات الحياة اليومية في تلك المنطقة التي منها خرج مبدعون كبار معروفو البصمات في المنجز الفني والإبداعي في البحرين، تشربوا روح المكان وجمالياته. أما الناقد جعفر حسن فقد أتحفنا بشهادة جميلة عن المنامة التي أينما يممت فيها فلا بد أن تقع عيناك على المنائر التي تعلق فوقها الهلال، المنامة التي هي أيضا امرأة تلبس جلباباً طرزته المآتم التي تحتضن الأفراح والأتراح. المنامة هي ميناء البحرين المفتوح على العالم من خلال سوقها وبوابتها الشهيرة: باب البحرين الذي يأخذنا إليه بسحر فريد رمضان في مطالع وثنايا رواياته، حيث العاصمة تستقبل منه الوافدين الجدد إليها من بر فارس وعمان والبصرة والهند فتأسرهم بما فيها من تنوع في المشاهد واللهجات واللغات، وهي تتهجى أولى مفردات الحداثة، فيتجاور في المكان نفسه المسلمون والمسيحيون واليهود والهندوس والعرب والعجم، ذلك الهجين الذي من صلاله تشكلت المنامة الجميلة. يمكن لك أن تتوغل في المنامة القديمة التي تتجاور وتتلاصق فيها الأحياء يوم لم يكن السني مشغولاً بسنيته والشيعي مشغولا بشيعيته على النحو الذي فعله بنا أمراء المذاهب اليوم الذين صادروا أو أوشكوا منجز التسامح والتعايش الذي طبع المدينة البحرينية وهي تتشكل في سيرورة التكون الأصيل والعميق، ثقافة وفناً ومسلكاً للعيش. ستجد تلك الأجواء في “رهائن الغيب” لأمين صالح وهو يحكي حي الفاضل الشهير، وسنجدها في شهادة معبرة كتبها عبدالقادر عقيل عن منامة ستينيات القرن العشرين يوم كان كل شيء”كلاس” كما يقول: زمن فرقة البيتلز وبطل الملاكمة محمد علي كلاي المراوغ كفراشة الذي نزعت منه البطولة لأنه رفض الذهاب لمحاربة الفيتكونج في فيتنام وزمن نادي الترسانة والصالون الأخضر. المنامة هي أيضا دور السينما والمكتبات التي كان بوسعك لا أن تقرأ فيها نجيب محفوظ ووسادة إحسان عبدالقدوس الخالية أو “نظاراته السوداء” فحسب وإنما تطالع على أغلفة الكتب وجه هوشي مينه الأليف وعناد الجنرال جياب عبقرية فيتنام العسكرية وكتب سلامة موسى وجورج حنا وترجمات فيكتور هيجو وجاك لندن ومكسيم غوركي. من صفحات تلك الكتب طلعنا وتشكلنا. في كل واحد من أبناء ذلك الجيل ذرة أو أكثر من تلك الكتب. لم أدرك تماماً، أنا القادم من السهلة، منامة الستينات، لكن أعرف جيداً منامة السبعينات، يوم أقمت فيها فعلياً نحو عامين رفقة حسن المحروس وعبد الرضا عبد الرسول في بيت هذا الأخير ليس بعيداً عن مأتم مدن، بعد أن فصلنا نحن الثلاثة ومعنا ثلاثة آخرين من مدرسة الحورة الثانوية ضريبة تزعمنا لإضرابات طلبة الثانوية من اجل حرية العمل النقابي. أين هذه المنامة التي كانت.
صحييفة الايام
13 اكتوبر 2009