تتمكن لغةُ (البيانِ) من الاستحواذ على الألبابِ الشرقيةِ خاصةً وهي تدخلُ التاريخَ العالمي. كان البيانُ قد دخلَ في حلقةِ التاريخ الأوروبي لكنه لم يشكلْ التحولات التي وَعد بها، لكن العواصفَ انتقلت لآسيا.
إن التاريخَ الأوربي المعاصر فككَ لغةَ البيان عبر زمنيتهِ الخاصة، فقبلَ بالنسبي فيها ورحل المطلقَ إلى تاريخ الإنسانية الكلي القادم، تخلى عن ماركس الشاب وقدر ماركس الكهل، وناضلَ من أجل تغيير معيشة الطبقات العاملة، ولم يعطها فرصةَ الحكم وتغيير البناء الرأسمالي، فظلت أحزابُ النسبي كالأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في الواجهةِ والحكم لأنها آمنت بالنسبي ورحلتْ المطلقَ، وغيرتْ ما تعلق بالنسبية الاجتماعية، متفهمة النظامَ الرأسمالي، في حين قاومت أحزابُ المطلق هذه النسبية المحدودة في تصورها واستمرت في العمل لإزالة الرأسمالية تماماً خاصة الأحزاب الشيوعية، فرحلتْ مع المطلق القادم غير العائش في النسبي.
لكن هذه النسبية أخذتْ تتعمق، وعلى العكس فإن الرأسمالية أخذت تنتشرُ بتوسع، وتتعمقُ في شرق أوروبا وجنوبها، ودخلت أوروبا في حروب منهكة دمرت الكثير من قواها العاملة، فراحت تتحدُ في رأسماليةٍ قارية، ثم ان الرأسماليات الكبرى في العالم راحت تتطورُ تقنياً بشكلٍ هائل، وحدث نقصٌ في قواها العاملة، واستدعتْ قوى العالم الثالث إليها، وثوّرت قوى الإنتاج ودخلتْ مرحلة أكثر تطوراً في التقنيات، واستغلت القارات الأخرى بتوسع.
وهي سلسلة من التطورات المعقدة جعلت الخصمين الاجتماعيين البروليتاريا والبرجوازية يعيشان في صراع نسبي سلمي طويل، لكن ظلَ الحراكُ الفكري لدى الفئة الوسطى الصغيرة، (البرجوازية الصغيرة) هذه التي سوف توجد كل أنواع الفنون والآداب والفلسفة وغيرها، وسوف تستمرُ بصخب وثورة في الفراغ المطلق وفي الوجود النسبي وفي تفجيرٍ للأشكالِ المجردةِ في الفنون كالتعكيبية والسريالية، وفي المسرح اللامعقول وفي الرواية: الرواية المضادة وغلبة تيار الوعي، وفي الفلسفة سوف تحتل الظاهراتية الأداةُ التكوينيةُ للمعمارِ الفلسفي المكانَ الأبرزَ في تشكيلِ عماراتِ الفلسفة الكبيرة: الوجودية، والبنيوية، والتفكيكية الخ.
إن تكون وعي البرجوازيات الصغيرة في هذا الحراك يستندُ إلى (جمود) الخصمين الاجتماعيين العمال والبرجوازية، وهو جمود يبتعد عن صياغة أشكال الوعي بشكل عام. فالمواد الخام قد تأتي منهما، ولكن القيام بالثورات الفكرية والتعبيرية سيتركز في هذه الفئات المطحونة والقلقة والمنتجة الفكرية، بين قوتي الرحى الرأسمالية، وإذا كان للطبقتين الكبريين المتصارعتين إنتاجٌ فكري، فعبرها كذلك، فهي التي تتداولُ البضائعَ الفكرية السابقة، وتفحصها بين فئاتها المتنوعة، وقد رفضت كلتا الأداتين الفكريتين للطبقتين السابقتي الذكر، وهما الماركسية والليبرالية السياسية، اللتان تتمحوران حول توجهات المادية الجدلية أو المادية السوقية. كان لابد لها من الاستقلال والتفرد، من رفضِ المادية خاصةً كفلسفة، فرفض المادية يعني رفض عمليات الحفر في البُنى الاجتماعية وتحليل الظاهرات والتغلغل في اكتشاف القوانين الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، وهذه عملية تربطها بالكادحين، وبنقد عالم الرأسمالية الموضوعي وبكل الحراك الصراعي الذي ينجمُ عنه، من تشكيل ثورات فكرية في الجامعات ووسائل الإعلام المختلفة، لكن كل هذا لا يدخل في السوق الرأسمالية، فعالمُ الرأسمالية الفكرية قائمٌ على المادية السوقية، بكل ظلالِها، من صعود لرمزيي البرجوازية الصغيرة وتحويلهم إلى نجوم في الفلسفة والأدب والفنون، كمستوى راقٍ للثقافة البرجوازية، أو تحويلهم إلى منتجي أدب فضائحي وفنون سوداء مختلفة تجذب وتكسب الملايين. إن البرجوازية المالكة هي التي تحدد توزيع الإنتاج الثقافي وأقسامه ونموه، والبروليتاريا هي المستهلك الأكبر، التي يوجه الإنتاج الثقافي لتخديرها أو لتشجيعها على الإنتاج وعيش التسلية بعد هلاك العمل.
في المستوى الراقي لعبت الأدواتُ الظاهراتية دورها كركيزة لهذا العالم الثقافي المتنوع الواسع ذي الآثار الهائلة، وقد ارتكزت عموماً على رفض الاعتراف بالواقع، وشكلت واقعاً مختلقاً، هو الكلمة أو الأدب أو البُنية أو الرموز المقطوعة عن البنى الموضوعية للعالم.
كان هذا الخيارُ هو خيارٌ طبقي بامتياز، كان إلغاءً لعالم الطبقتين المتصارعتين، ورفضَ أعتبارهِ أساساً للوعي. وهو جاءَ بسبب تلك النسبية التي أشرنا إليها، وكون إطلاقية ماركس وتلك الدعوة الثورية لكسح البرجوازية لا تستند إلى أساس راهن.
وهي الدعوةُ المباشرةُ التي تخلى عنها في كتابه الناضج التاريخي(رأس المال)، ولكن الفصائل التي دعاها للعمل كانت قد نهضت في أقطار الأرض على إيقاعات الزمن الاجتماعي المختلفة، والتصقَ (البيانُ) بها أكثر بكثير من رأس المال. لما قلنا من نضاليته الشعبية البسيطة، ولاختزاله، ولخياليته في جانب ولعلميته في جانب آخر، وتركزت الدعوة عند من يستفيد منها بدرجة أساسية وهم العمال.
صار للبيان ولهذه الماركسية مساراتٌ مختلفة، لطبيعة محتواها المتعدد الوجوه ولتناقضاتها الفكرية الداخلية، ولنموها في قاراتٍ مختلفة، التحقتْ بالرأسمالية على أنحاء متفاوتة في الزمن وفي الأشكال والمراحل.
وفي حين سارت لغاتُ (البيان) بوفرةٍ واتساع هائل في الشرق مشتْ ببطءٍ في الغرب، وكان هذا التناقضُ البارزُ وجهاً لتناقضٍ عميقٍ أخذَ يتكشفُ بقوةٍ هائلةٍ في التاريخ البشري المعاصر. كان الغربُ يصيرُ هو المالكُ الأساسي للخيرات، هو الاستعمار المهيمن على المواد الخام الثمينة والرخيصة، هو المحولُ لها: ثرواتٍ أسطوريةً وتقنيات رفيعة وطبقات مستمتعة ثرية وخدماً فكريين وفنيين كثيرين، وعلماء متخصصين لتطوير المصانع وتضليل العالم الخ.
كانت الطبقتان المالكة والعاملة تصنعان السلعَ المادية وكانت البرجوازية الصغيرة تصنعُ السلعَ الثقافية.
صحيفة اخبار الخليج
12 اكتوبر 2009