رب صدفةٍ خيرٌ من ألف ميعاد، هكذا كان اللقاء وإن كان عابرا مع حسن مدن، بينما كان ينتظر خلو الأستوديو لتسجيل لقاءٍ بُثّ لاحقا على «الوسط أون لاين».
البرنامج كان للحديث عن كتابه الجديد «ترميم الذاكرة»، وهو ليس «كتاب سيرة»، كما يقول، وإنما تأريخٌ لغربة قسرية طويلة، امتدت لأكثر من ربع قرن.
سجل مدن تاريخا للمدن التي عاش فيها، من القاهرة التي عشقها حين ذهب إليها شابا يافعا للدراسة، وخرج منها مجبرا إلى بغداد التي اشتد فيها عود الدكتاتورية، فلم يطل به المقام أكثر من عام ليغادرها إلى بيروت الساقطة في أحضان الحرب الأهلية منتصف السبعينيات. وبعد اجتياح بيروت 1982، رحل إلى دمشق ومنها إلى موسكو ملتحقا بمعهد الاستشراق ليكمل دراسته العليا.
عاد في التسعينيات إلى البحرين فأجبر على الرجوع من حيث أتى، إلا أنه اختار الرحيل إلى الإمارات، ليحط الرحال في الشارقة، ويبدأ واحدة من أخصب مراحل حياته… حتى لاح عهد الانفراج فرجع مع العائدين.
الحرمان من الوطن والحنين إلى رائحته، هو الخيط الذي يعزف عليه الكاتب، بلغةٍ شفافةٍ فيها الكثير من التفاصيل. كان واعيا بأن لكل شعب أسطورته عن نفسه وأرضه، لكن في هذه الجزر الصغيرة حكايات مجيدة، عن وطنٍ نذوب في حبّه مهما كان قاسيا ووحشيا في معاملتنا.
مدن تعرّض للسجن أول مرةٍ بسبب كتبٍ كان يقرؤها، وطالما حاولت أمه إخفاءها عنه، وطالما حذّره أخوه الأكبر منها، إلا أنها المقادير نسعى إليها بأقدامنا. واعتقل ثانية في القاهرة، ومرة ثالثة ضمن حملة تأديبية لإحدى المجلات التي تجرّأت منتصف السبعينيات على نشر تحقيق صحافي عن «العمالة الأجنبية… والرقّ الجديد»، وكان نصيبه من التهم كتابة مقال عن دولةٍ شقيقةٍ مصدر معلوماته كانت الصحف الصادرة في تلك الجمهورية!
نتابع الكاتب وهو خارجٌ من المطار، ليمرّ بقرى السنابس وجدحفص وجبلة حبشي حتى ينتهي إلى مهوى فؤاده (السهلة الجنوبية). كلّ شيء تغيّر، حتى قريته باتت أصغر مساحة وساحتها أصبحت أقل اتساعا، والطريق إلى منزله القديم أصبح أقصر. الحقيقة أنه هو الذي تغيّر، فالقرية باقية في مكانها كالنخل الخرافي الذي يموت مرفوع الرأس، بينما هو جاب المدن وعاش المنافي طولا وعرضا. خرج شابا لم يتجاوز العشرين، وعاد كهلا يتلمس الطريق إلى قبر والديه اللذين قضيا قبل سنوات؛ وإلى غرفته التي قضى فيها صباه، وقرأ فيها كتبه الممنوعة آنذاك وفق أحكام «أمن الدولة».
عندما تجلس إلى مدن لأول مرةٍ عن قرب، تكتشف أنه إنسان خجول، يتحاشى النظر في عينيك فيما يتدفق في الحديث عن السياسة والكتابة والأدب وآلام المنفى والشامات المطبوعة على وجنات المدن. وتكتشف أنه كان يرغب بدراسة الإعلام فلم يوفّق، فاختار دراسة الحقوق، ولعل ذلك ما أعاده إلى حظيرة الإعلام، كاتبا لعمود يومي في «الخليج»، أقدم وأشهر صحف الإمارات.
السياسة رغم أوضارها، أغنت تجربته في الثقافة والحياة، ووسّعت آفاقه الفكرية، على خلاف ما يرى كثير من معذَّبيها، فلولاه لكان ما يكتبه أقل ثراء وغنى. وقد جاء «ترميم الذاكرة» أقرب إلى التأملات فيميل إلى الاستطراد أحيانا، لكنه كان طريقه للتخفيّف من وطأة ذكريات الغربة وأثقالها الضاغطة على القلب.
الكتاب كان جليسي يوم العيد، بدأته مبكرا صباحا، وأنهيته عند الساعة الرابعة من فجر اليوم التالي، لعل كثيرا من عوامل الجذب شدتني إليه، فهو سبقني للدراسة في مدرستي (الخميس) بخمس سنوات؛ وتعلّم السباحة كما تعلمتها في عين عذاري التي تتوسط قريتينا؛ وخاض برجليه مياه خليج توبلي الضحلة، وشاهد نوارسه تحطّ بين أشجار قرمه في طريق هجرتها إلى الأماكن البعيدة عند ساعات الغروب.
الوسط الأربعاء 30 سبتمبر 2009م