تمر اليوم الذكرى السادسة والثلاثون لحرب أكتوبر من عام 1973 المجيدة، وهي الحرب النظامية الوحيدة التي استطاع خلالها جيش عربي أن يباغت جيش العدو الإسرائيلي بالهجوم وان يهزمه ويفرض عليه التراجع والانسحاب ولو من جزء من الاراضي العربية التي كان يحتلها، ألا هو الجيش المصري في هجومه الملحمي خلال عز ووضح النهار عند ظهيرة ذلك اليوم الخالد على قوات الاحتلال الاسرائيلية في سيناء، هذا بالرغم من الادارة العسكرية السياسية العليا السيئة للمعركة ممثلة في الرئيس الراحل أنور السادات التي أحبطت عمليا تطوير ذلك الهجوم البطولي.
وعلى الرغم من مضي 36 عاما على انتهاء تلك الحرب المجيدة لم تنقطع خلالها الدراسات والمؤلفات والتقارير الصحفية التحليلية التي تتناول ابعاد ودروس النصر وعوامل صنعه مصريا وعربيا فان الدراسات والكتب والموضوعات الصحفية التي تناولت أحد العوامل الرئيسية لذلك النصر والمتمثل في الاسلحة السوفييتية والمدربين السوفييت والأهم من ذلك تضحيات عدد كبير منهم في تلك الحرب مازالت في تقديرنا محدودة وشحيحة.
ان اختلافنا اليوم في الكثير من سياسات الاتحاد السوفييتي السابق الخارجية والانتقادات الموضوعية القاسية لنظامه الشمولي السابق، لا ينبغي بأي حال من الاحوال ان يحملنا على تجريده من الشهادة التاريخية الموضوعية في حقه لموقفه المبدئي وما لعبه من دور تاريخي مهم في مساندة ودعم العرب بمختلف اشكال المساندة والدعم القويين سياسيا ودبلوماسيا واقتصاديا وعسكريا طوال ما يقرب من أربعة عقود متواصلة من الصراع العربي – الاسرائيلي، بدءا من دعم الثورة المصرية 1952 إلى 1991 عام انهيار الاتحاد السوفييتي.
وإذا كانت أكثر تلك الدراسات القليلة النادرة التي تناولت دور الدعم العسكري السوفييتي، كأحد العوامل الرئيسية التي أسهمت في خلق نصر أكتوبر فانها خلت جميعها تقريبا من تبيان ما هو أغلى واخطر من هذا الدعم العسكري الذي قدمه الاتحاد السوفييتي الا هو تضحيات عدد كبير من ضباطه وجنوده بأرواحهم في تلك الحرب التي خاضوها إلى جانب رفاقهم الضباط والجنود المصريين والسوريين في مصر وسوريا.
ولعل اشارة تلك الدراسات والكتب إلى ما قدمه السوفييت من تضحيات في الارواح يعود في جزء رئيسي إلى ان الاتحاد السوفييتي حتى انهياره كان في الغالب متكتما على الافصاح عن هذه الحقائق، سواء أمام شعبه، أم امام العالم، وهذا ما كانت مصر وسوريا على الارجح تسايرانه فيه. ولكن في السنوات القليلة الماضية وفي سياق المراجعة الروسية واماطة اللثام عن خفايا الارشيف السوفييتي السابق، بما في ذلك تنظيم حوارات اعلامية مع شخصيات وقيادات عسكرية وسياسية سوفييتية سابقة، جرى كشف النقاب عن بطولات وتضحيات عدد من الضباط والجنود السوفييت الذين استشهدوا في معارك حرب الاستنزاف بمصر وهي الحرب التي مهدت لحرب أكتوبر المجيدة، ثم تضحياتهم في هذه الحرب الأخيرة نفسها. كما قام معهد التاريخ العسكري التابع لهيئة الاركان العامة الروسية باصدار كتاب يتضمن لوحة اسماء الشرف الاممية للجنود والضباط السوفييت الذين استشهدوا في حرب الاستنزاف بمصر (1967-1970) وكذلك في حرب 6 أكتوبر بمصر وسوريا عام .1973 وثمة جمعية تضم قدامى المحاربين من الضباط السوفييت الذين تم ايفادهم إلى مصر وسوريا وبعض البلدان العربية الأخرى.
أما من ابرز الشهادات السوفييتية التي كشف النقاب عن تلك التضحيات السوفييتية المجيدة من أجل المساعدة على تحرير أراضي الاصدقاء العرب الذين نظر إليهم الاتحاد السوفييتي السابق بأنهم اصحاب قضية عادلة، فقد وردت في حوارات اجرتها وسائل الاعلام الروسية ومنها “قناة روسيا اليوم” مع جنرالات وقادة عسكريين سوفييت كبار، لعل من ابرزهم الجنرال نيكولاي ايفليف، المستشار العسكري والقائم بأعمال الهيئة العسكرية الدبلوماسية في السفارة السوفييتية بالقاهرة وشارك في حربي الاستنزاف عام 1970 واكتوبر عام 1973، والجنرال محمود جارييف المستشار العسكري السوفييتي لرئيس هيئة اركان القوات الحربية المصرية الفريق الشهيد عبدالمنعم رياض، وكان مسئولا ايضا عن ادارة الصواريخ والمدفعية المضادة لمقاتلات العدو الاسرائيلي من طراز فانتوم، وقسطنطين بوبوف، آمر إحدى الكتائب الصاروخية في قوات الدفاع السوفييتية، الذي أرسل ضمن مجموعة كبيرة من الخبراء العسكريين إلى مصر للمشاركة الفعلية في حرب الاستنزاف ضد العدو الاسرائيلي بعد هزيمة 1967، وبافل اكوبوف، المستشار الاقتصادي السابق في السفارة السوفييتية بالقاهرة، وفلاديمير بولياكانوف الرائد العسكري والمترجم الذي قاتل إلى جانب اللواء السوري المقاتل بالصواريخ السوفييتية المضادة لمقاتلات العدو الاسرائيلي، وليونيد جورشكوف الجنرال العبقري وهو من الرواد السوفييت في تصميم وتحديث منظومة الصواريخ المضادة للطائرات وممن قاتلوا في معارك حرب الاستنزاف بمصر وابلوا فيها بلاء حسنا.
وطبقا لشهادة الجنرال بولياكانوف فإن ما قدمته بلاده من شهداء يصل عددهم إلى أكثر من 13 شهيدا في حرب أكتوبر وأكثر من مائتي جريح في سوريا أما ما قدمه الاتحاد السوفييتي في حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر لتحرير سيناء حسب شهادة الجنرال بوبوف فيصل عددهم إلى أكثر من 60 شهيدا. لكن من نكد زماننا عربيا وروسيا ان تأتي هذه الشهادات التاريخية المتأخرة فيما لايزال أولئك الشهداء من الضباط والجنود السوفييت والابطال السوفييت الاحياء ورغم كشف النقاب عن اسمائهم باتوا اشبه بالجنود المجهولين الغرباء داخل وطنهم وفي البلدين العربيين اللذين ارتوى ترابهما بدمائهم الزكية دفاعا عن الكرامة العربية من أجل تحرير سيناء والجولان، فلم يتم تكريم أي منهم ولو باطلاق اسمه على شارع صغير في العاصمتين، فيا لبؤس هذا الزمان العربي الرديء الذي نحياه!
صحيفة اخبار الخليج
6 اكتوبر 2009