أذكر، ذات عام سبعيني من القرن الذي خلى، في صالة من صالات السينما البيروتية التي كان يعج بها شارع الحمرا، أني شاهدت فيلم «الاغتيال» الذي أخرجه الفرنسي ايف يواسيه. وفي الذهن باقٍ مشهد للمهدي بن بركة على مقعد في حديقة عامة رائعة الجمال والتنسيق في جنيف، يوم كان في منفاه بأوروبا، يسر لصديق له عن حرقة شوقه للمغرب. كانت تلك لحظة من اللحظات التي سبقت اختطافه المريع في العاصمة الفرنسية. وليس هذا هو الفيلم الوحيد عن ابن بركة، ففي عام 2004 افتتح مهرجان الإسكندرية السينمائي الدولي بفيلم «اغتيال ابن بركة»، للمنتج والمخرج الفرنسي سيرج لوبيرون، الذي عاد في عام 2005 فأخرج فيلماً روائياً ثانياً عن القضية تحت عنوان «رأيت ابن بركة يُقتل». الآن يعود المهدي بن بركة إلى الواجهة لا عبر فيلم من الأفلام عن حياته الحافلة واختفائه المحاط بالرهبة والغموض، وإنما عبر مذكرة توقيف أصدرتها منظمة الانتربول بحق أربعة أشخاص يشتبه بتورطهم في اختفائه. والمعنيون بمذكرة التوقيف هما مسؤولان أمنيان سابقان وشخصان يعتقد أنهما كانا في عداد فرقة الكوماندوس التي خطفت ابن بركة، الذي اخيتر وهو في منفاه منسقاً للجنة التحضيرية لمؤتمر القارات الثلاث، ومقرها هافانا عاصمة كوبا، مما لفت الأنظار إلى دوره على الصعيدين العربي والإفريقي، فأصبحت أكثر من جهة تتمنى اختفاءه من المسرح السياسي العالمي. في التاسع والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول 1965 استدرج إلى موعد في مطعم ليب في قلب باريس، رتبه أحد المتعاونين مع خاطفيه بزعم تصوير فيلم تسجيلي عن حياته وبتواطؤ مع الشرطة الفرنسية، بعدها اختفى الرجل من الوجود، نتيجة اغتياله فيما يرجح، دون أن يعرف حتى اللحظة المكان الذي أخفيت فيه الجثة. في إحدى قصائده تنبأ لوركا بأن جثته لن يُعثر عليها بعد موته. وللدهشة فإن هذا ما حدث بالضبط، ففي مكان ما في التلال المحيطة بغرناطة في عام 1936 قتلت فرق الموت الفاشية المؤتمرة بأوامر فرانكو الشاعر، الذي كان في الثلاثينات من عمره فحسب. كان يهجس بالموت، لذا طلب أن تبقى نافذته مفتوحةً عندما يموت. لكنه لم يَمتْ، إنما قُتل غيلةً. لم تكن ثمة نافذة لتفتح لحظةَ قتله في الفضاء الشاسع تحت السماء الأندلسية، ولكن الشاعر الذي أراد لنفسه موتاً شاعرياً كان يقول نبوءته في أن شعره سيُحلق من خلف نوافذ غرناطة، التي عاش وتعلم وناضل وقُتل فيها، ليطوف الدنيا. في العام 2008 أمر أحد القضاة الأسبان بفتح عددٍ من المقابر الجماعية لضحايا الفاشية في الحرب الأهلية في بلاده، لأن هذا القاضي الشجاع وضع على عاتقه مهمة إنصاف ذكرى هؤلاء الضحايا، فاستجاب القاضي لنداء ذوي من فُقدوا فترة حكم فرانكو، والذين يُقدر عددهم بـ 500000 شخص، ويرجح أن يعثر على رفات الشاعر لوركا في واحدةٍ من هذه المقابر. والمهدي بن بركة ليس شاعراً ولكنه مناضل من أجل الحرية مثل لوركا، ومنذ يومين سمعت ابن المهدي بن بركة يتحدث لـ «بي. بي. سي» عن أن عائلته لن تتنازل عن المطالبة بجلو الحقيقة حول مصير جثمان والده. «ستُبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً، ويأتيك بالأخبار من لم تُزودِ»، يقول شاعرنا طرفة بن العبد، والله يُمهل ولا يُهمل.
صحيفة الايام
6 اكتوبر 2009