المنشور

كوارث العالم.. وإنفلونزا الخنازير سياسيا

مع دخولنا الربع الأخير من العام الجاري 2009، فإن هذه السنة ذاتها تبدو من أكثر سنوات العقد الحالي الأول من القرن الجديد في حجم الكوارث الطبيعية والكوارث التي من صنع الانسان على حد سواء، فمن حيث الكوارث البيئية التي تعد في ذات الوقت من صنع الانسان تأتي في مقدمتها جائحة انفلونزا الخنازير التي ظهرت خلال ربيع العام الجاري في القارة الأمريكية وسرعان ما انتشرت في ربوع سائر القارات الأخرى. وبالاضافة الى انفلونزا الخنازير عرف العالم عددا غير قليل من حوادث وسائل النقل المختلفة وعلى الأخص الطائرات بدءا من طائرة النقل العسكرية الاندونيسية التي لقي جميع ركابها الـ 110 مصرعهم، ومرورا بطائرة الايرباص الفرنسية التي تحطمت فوق المحيط الاطلسي والتي لقي جميع ركابها الـ 228 حتفهم، ثم طائرة الايرباص الأخرى التي تحطمت فوق المحيط الهندي قبالة سواحل جزر القمر وقتل من جرائها 153 راكبا ولم تنج من الحادث سوى راكبة واحدة وليس انتهاء بسقوط ثلاث طائرات ايرانية.
أما من حيث الكوارث البيئية الطبيعية، كقضاء وقدر لا مفر منهما، فهي عديدة ايضا لعل اخطرها التسونامي الذي ضرب جزيرة سومطرة الاندونيسية ومناطق اخرى في المحيط الهادي مما تسبب في مقتل ما يقرب من الفي شخص والاحصائيات المتتابعة مرشحة لتزايد اعداد الضحايا، ناهيك عن كوارث الزلازل والسيول والامطار الغزيرة في آسيا نفسها وقارات اخرى.
ورغم كل هذه الكوارث المختلفة، فان جائحة انفلونزا الخنازير هي “الكارثة” مازالت تستحوذ على اهتمام ومخاوف العالم برمته، ومازالت الاكثر اثارة للجدل الطبي العلمي، ومازال الوباء يعد الأكثر تفاوتا في كيفية تعامل دول العالم في كيفية الوقاية منه ومواجهته بين الهلع والارتباك الاشبه باعلان طوارئ مواجهة حرب داهمة وشيكة وبين التعامل المعتدل معه، وبين التعامل العادي الأقرب الى ما يشبه الاستخفاف بمخاطره، إما لفقر الدولة التي تسلك هذا السلوك ولتخلف ايضا خدماتها الصحية، وإما لجهلها المطبق ربما بتبعات مخاطره، وإما للسببين معا.
واذا كانت انفلونزا الخنازير مازالت تثير كل هذا الجدل العلمي الطبي العالمي، الا انه من اللافت خلو هذا الجدل في الغالب من الابعاد السياسية للوباء ولمسببات ظهوره، ففي الوقت الذي يوصف فيه عالمنا المعاصر بأنه أضحى بمثابة قرية صغيرة بفضل ثورة الاتصالات والتقدم الهائل في التكنولوجيا فان لا أحد أعاد الى الأذهان أن من ضريبة الاستفادة من هذه الثورة السرعة الفائقة لانتقال وتصدير الأوبئة الى مختلف ارجاء الكرة الارضية، وهذا ما لم يكن يحدث تاريخيا الى ما قبل قرنين الا ببطء شديد.
فالعالم قبل تقدم وسائل الاتصال والمواصلات، أي قبل نحو قرنين ونيف، كانت بلدانه ومناطقه وقاراته اشبه بالمعازل والمحميات الطبيعية في عدم انتشار أو تنقل الأوبئة سريعا وذلك بفضل البعد الشاسع في المسافات فيما بينها وبطء النقلين البري والبحري وغياب النقل الجوي الذي لم يكتشف بعد.
اما وقد حدثت ثورة في تقدم وسائل المواصلات الفائقة السرعة، وعلى الأخص الجوية، فقد اصبح كل العالم مشرعا على استقبال كل الاوبئة والجوائح ولم تعد بمنجاة في ذلك بقعة واحدة من الدنيا كلها، اللهم كوريا الشمالية الى حد ما، باعتبارها اكثر دول العالم في الانعزال السياسي والحصار المضروب عليها وعدم الاختلاط بشعوب العالم، ولو عرفت بمثلنا الشعبي لقالت: “محسود الفقير على موتة الجمعة”.
على ان شعوب العالم لا تدفع على نحو متكافئ ضريبة تحول العالم حضاريا الى قرية، وعلى الأخص شعوب العالم الثالث منه، ففي الوقت الذي تعد الدول الغربية المتقدمة الاكثر استعدادا وجاهزية للتعامل مع انفلونزا الخنازير وعلاجها والتقليل من مضارها توطئة للقضاء عليها وابتكار تدابير صارمة للوقاية منها فإن دول العالم الثالث وعلى الاخص الفقيرة اقل جاهزية واستعدادا في التعامل مع هذه الجائحة بسبب محدودية مواردها المالية والبشرية ذات الكفاءة المؤهلة.
وغني عن القول انه اذا كانت الدول الغربية الكبرى تدفعها انانيتها إلى عدم الاكتراث الكافي بما تنكب به شعوب العالم الثالث من كوارث فمن باب اولى ان تعظم هذه الانانية حينما تكون هي نفسها تواجه كارثة عالمية مشتركة مثل انفلونزا الخنازير ايا تكن درجة الخطورة التي تمثلها عليها.
الأنكى من ذلك فاننا بتنا ندفع ضريبة وباء هو بامتياز من صنع الحضارة الغربية ذاتها، وعلى الاخص فيما يتعلق بعالمنا الاسلامي، فتربية الخنازير هي نادرة في الدول العربية والاسلامية لأن شعوبها تحرم اكل لحومها. أما ثالثة الأثافي فلأننا نعيش في عالم وعلى ارض مفتوحة فانه لا ينبغي استبعاد فرضية أن تكون انفلونزا الخنازير ذاتها من جراء تسرب سلالات من الاوبئة او فيروساتها المخزنة في معامل تصنيع الاسلحة البيولوجية.. نقول لا ينبغي استبعاد هذه الفرضية من ساحة الجدل والحوار العلميين العالميين حول الجائحة حتى يثبت ثبوتا قاطعا بطلانها ولا نقول التسليم بصحتها مقدما.
ولعل من المفيد التذكير بأن الدول العظمى الصناعية، وعلى الاخص الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق، احتفظت في حاضناتها المختبرية البيولوجية العسكرية بفيروسات الجدري رغم تخلص العالم منه كليا منذ اكثر من 20 عاما، وقد اعترف علماء امريكيون وسوفيت سابقون بذلك. هذا بخلاف تخزين فيروسات من الاوبئة التاريخية الاخرى.
واذا كان الشيء بالشيء يذكر فإن الولايات المنتحدة مثلا لم تكتف بتوظيف فيروسات الاوبئة في تطوير اسلحتها البيولوجية فحسب، بل لم تتورع عن استغلال ابتلاء شعوب بها لاخضاعها لهيمنتها مثلما حدث مطلع القرن العشرين الماضي اثناء غزوها للفلبين واستغلال وباء الكوليرا في هذا البلد الفقير حينئذ لاحكام الحصار على معاقل المقاومة الوطنية واشاعة دعاية مغرضة تعزز الاعتقاد بحاجة الشعب الملحة إلى الأمريكيين كمنقذين طبيا له من الوباء ودفع الفلبينيين إلى الاستسلام والتخلي عن المقاومة للتفرغ لمقاومة المرض، ولم تكن ضريبة شعوبنا تصدير الغرب إليها انفلونزا خنازير هي من صنعه فحسب، بل ما انفكت، كما ذكرنا في وقفة سابقة، شركات الأدوية في بلدانه تتاجر في لقاحاتها بأبهظ الأثمان.

صحيفة اخبار الخليج
5 اكتوبر 2009