تقود الثورات دائماً الوعي إلى تبدل مقولاته وأفكاره، ويعتمد هذا على مسار هذه الثورات، وطبيعة البناء الاقتصادي الذي تظهر فيه، وحين تبدأ الثورة الإيرانية تتعقلُ التاريخين القديم والحديث، إنما هي تبحث مصيرها الراهن وخطواتها المستقبلية بين فرقاء مختلفين، كلٌ منهم له نظرته عن المستقبل، وله رؤيته عن الماضي، ويتشبث بها، لكونها امتزجت بمصالحه ومكانته في الامتيازات الاجتماعية الجديدة. وهو يلغي هذا الطابع الاجتماعي الملموس الذي يعريه ويتشبثُ بطابع فكري مجرد يربطه بالمقدس.
وكل مفك – داخل هذا السياق – ينطلق من لغته التعبيرية الفكرية، داخل هذه الثورة ومصالحها وتحولاتها، وعبدالكريم سروش اختار أن ينمو بالثورة نحو آفاق جديدة، يدرك أنها خصبة للأمة الفارسية داخل تراثها الإسلامي، ولابد له من مناقشة مرجعياتها القديمة، وإضفاء سمات جديدة لها، كي تنتقل للمرحلة الجديدة المنتظرة.
وفي حين يتشبث البعض بالامتيازات والمقاعد العليا السياسية الاجتماعية، يختار البعض الأقل سبل التضحية، اقتداء برموز الديانة، وهذا ما حدث لعبدالكريم الذي رأيناه داخل صفوف الدينيين يشارك في قمع الإيرانيين اللادينيين والديمقراطيين، في مجالِ الجامعة والثقافة، يتحول هو نفسه إلى مضطهد ومقموعٍ في العالم الشمولي الذي كان من بناته، ومن ثم إلى مطارد ومنفي! وبعد هذا إلى كافر ومرتد في نظر المؤسسة الدينية السياسية!
ثقافته كانت واسعة، وعادة تلعب الصوفية لدى المثقفين الفرس حيزاً كبيراً، وهو حين ذهب إلى الدراسة في الغرب كانت عدته المراجع الدينية الإسلامية المختلفة، وخاصة الصوفية الفارسية ذات التاريخ الشعري الهائل.
كانت الاثناعشرية عبر الصوفية تتخلى عن الجمود وتتحدُ بالأمم الإسلامية وآفاق الحرية الغامضة في العصر الوسيط، وتجمع بين العقلانية والإشراقية، بين النقد الاجتماعي القاسي للأغنياء والامتيازات وبين التدين الشعبي المضحي البسيط. ومن هنا وسع سروش أهمية الصوفية في الواقع الإيراني الراهن باعتبارها لغة تسامح وأممية إسلامية وأممية إنسانية، وضم كل المذاهب الإسلامية في غرفة الوحدة الكونية، من دون أن يجعل أي مذهب إسلامي له السيطرة وتذويب المذاهب الأخرى، ولكن هذا الفكري التوحيدي خلا من البرنامج السياسي التوحيدي، فبقي في الخيال.
هذا جزء من نظر متقدم في حراك (الطبقة) الوسطى الصاعدة في المجتمع الإيراني وهي تشكل سوقاً وطنية واسعة، وهي تكوّن مجتمعاً وطنياً ذا مركزية شديدة من قبل التقليديين.
ولكن مستوى تطور الفئات الوسطى التي تتكون منها ومستوياتها الاقتصادية والمعرفية والاجتماعية تجعلها عاجزة عن التوحد كطبقة، أي أنها تتضارب بين فئاتها العسكرية والسياسية والاقتصادية، بين قواها الريفية المسيطرة وقواها المدنية المتقدمة المحدودة، انها أجنحة متباعدة بسبب مستوى تطور قوى الإنتاج الراهن التصنيعي الأولي.
ويعبر مستوى وعي سروش عن هذه التناقضات ومحاولة القفزة التي تنمو داخل الثياب الدينية الشمولية. فايديولوجية(القبض والبسط) لها جذور في التعبير القرآني (واللهُ يقبضُ ويبسط)، وفي الأدب الإسلامي كان ذلك استلهاما لقول الجنيد (الخوف من الله يقبضني والرجاءُ منه يبسطني)، ويتسق ذلك مع الوضعية أو الكانطية عبر رؤية الجزئي الملموس، في نموذج اليد وحركتِها الجزئية، وليس حركة المجتمع وقوانينها العامة، وهذا يتحولُ في درسِ الحدثِ الإسلامي التأسيسي، ورؤيته إلى ظاهرٍ سطحي غالباً، وفصله عن جوهر الدين، فهناك ظاهر وباطن، وهي عودة للصوفية والتيارات الباطنية بأدوات البحث الغربية للطبقة البرجوازية الألمانية في القرن الـ 19 خاصة، وقد وصلت للحكم، وراحت تصارع العاملين، في موقف مغاير للفئات الوسطى الإيرانية التي تصارعُ الإقطاعَ ومخلفاته من دون أن تتحد بقوة مع العاملين.
(ويحاول سروش أن يطبق هذا المنهج على النص القرآني، معتبرًا اللغة العربية والثقافة العربية السائدة حين نزول الوحي هي المظاهر العَرَضية أو الأشكال الظاهرة التي يؤدى عِبْرَها المعنى الجوهري. وهاتان اللغة والثقافة العربيتان تتجليان في استخدام مألوفات العرب وعاداتهم. فعلى سبيل المثال، يذكر القرآن نساء الجنة بأنهن “حور”، أي سوداوات العيون ولسن زرقاوات العيون، وأنهن يسكن في خيام: “حُورٌ مقصوراتٌ في الخيام” (سورة الرحمن 72). ويوصي الناس إلى النظر إلى الإبل وخلقتها: “أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلِقَت” “سورة الغاشية 17”. ويعتمدُ القرآن التقويم القمري، ويتحدث عن إيلاف قريش ورحلاتِها الصيفية والشتوية، ويحكي عن أبي لهب، ويذكر الدواب التي يعرفها العرب، كالخيل والإبل والحمير إلخ – كلها دلائل على أن اللون العربي والرائحة العربية والخلق والعنف والتقاليد والعادات والبيئة والمعيشة العربية أحاطت بالنواة المركزية للفكر الإسلامي)، (عرض: وجيه كوثراني).
إن الجوهري هنا ليس كون التحول تم في بيئة بدوية بمواصفات محدودة، بل هو قيام فئة وسطى بتشكيل ثورة منها، ستغدو صانعة ومقياساً لتحولات قادمة ونموذجاً للحرية، مستخدمة ما هو متوافر من مواد لغوية وقصصية وأدبية وقانونية الخ.. لكن هذه القيادة تمت بالتحام مع العبيد والفقراء، وهو الأمر الذي شكل عملية التصنيع التاريخية وغدت أمثولة تأسيسية للمسلمين.
إن تقسيم اللحظة النموذجية الإسلامية إلى ظاهر وباطن، إلى سطح متغير وجوهر باق، هو ما تعبت في نسجه وتكراره الحركاتُ الباطنية والتأويلية في الثقافة العربية الإسلامية التقليدية فلا جديد هنا، لكن ما أضافه عبدالكريم هو أن المادة الجديدة التي كانت قادمة من أثينا عبر أفلاطون وأرسطو، تصير هنا قادمة من أدوات منهجية غربية ألمانية بمواصفات معينة، تظل تراوح في ثنائيةِ الظاهر والباطن، والمتغير والثابت، (هناك الدين اللامتغير وهنا الفلسفات المتغيرة الوافدة المفيدة في زحزحة الجمود في ذلك الدين). وقد سبق كذلك أن قام بها قبلاً مثقفو مصر والمغرب واستقوا المصادر نفسها بلغات تعبيرية مختلفة وأنتجوا العجز الاجتماعي نفسه. وكان بعضهم يرفض الشيء في ذاته، لأن مستوى فئاته الوسطى أكثر تقدماً من الفئات الوسطى الإيرانية المحبوسة في عالم الإقطاع.
صحيفة اخبار الخليج
4 اكتوبر 2009