يقال لا عجب في رجب، ولكن يبدو أن كل شهور السنة بأسمائها ومسمياتها المختلفة، قد أضحت في هذه الدنيا العجيبة، رجباً بعد أن صار العيش في زمن اللامعقول هو الحقيقة المتقدمة بتجاسر على مواقع منطق الأشياء وبدهياتها.
وإلا ماذا عسانا أن نسمي وقوف العالم أجمع عاجزاً أمام دولة واحدة لا يتجاوز عدد سكانها الأربعة ملايين نسمة، دولة خارجة على القانون.. اغتصبت أراضي دول أخرى وأقامت عليها كيانها.. عاجزاً عن الضغط عليها من أجل تنفيذ قرارات مجلس الأمن (242 و338 و194) التي تنص على وجوب انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها عام 1967 وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم.. وعاجزاً عن إجبارها على الانضمام إلى معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية والكشف عن ترسانتها النووية والسماح لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بتفتيش منشآتها النووية. بل إن العالم، كل العالم، يتودد اليوم إلى حكومتها اليمينية المتطرفة من أجل أن تتعطف عليهم وتوافق على تجميد (فقط تجميد!) بناء مستوطنات جديدة والتوسع في المستعمرات القائمة في الضفة الغربية! إلا أن إسرائيل خيبت آمالهم جميعاً، إذ رفضت رفضاً قاطعاً تقديم أي التزام بتجميد الاستيطان. حتى الولايات المتحدة وعلى رأسها الرئيس باراك أوباما الذي جاء للمنطقة وتشقلب كالبهلوان وهو يوزع وعوده يمنة ويسرة بتصفية مخلفات الحقبة ‘البوشية الكاوبوية’ المريرة والعمل على تمكين الشعب الفلسطيني من معانقة حلمه في إنشاء دولته المستقلة على أرضه المغتصبة – ها هو ينهار أمام تعنت وصلف الساسة الإسرائيليين بعد أن كان مندوبه الشرق أوسطي جورج ميتشل يرفع الراية البيضاء إعلاناً بفشله بعد خمس زيارات مكوكية للكيان، في إقناع قادته الغوغائيين بتجميد الاستيطان ولو لمدة عام واحد فقط.
المضحك المخجل في هذا الأمر أن هذا الرفض الإسرائيلي المتعنت جاء على الرغم من التعهدات التي حصلت عليها واشنطن من دول عربية بإطلاق حزمة من إجراءات التطبيع مع إسرائيل تتعلق بالسماح للطيران التجاري الإسرائيلي بالتحليق في أجوائها، وإقامة شبكة خطوط اتصالات هاتفية وتسهيل العمليات المالية والتجارية معها. بل إن السلطة الفلسطينية التي كانت اشترطت قبلاً موافقة إسرائيل على وقف الاستيطان مقابل موافقتها على استئناف المفاوضات معها، جاءت ووافقت تحت الضغط الأمريكي، والعربي ربما، على لقاء رئيسها محمود عباس مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو. أي أن الضغط الأمريكي الموعود على إسرائيل قد تحول ‘بقدرة قادر’، ضغطاً على العرب والفلسطينيين!! الرئيس أوباما.. نسمع كلامك يعجبنا، نرى أفعالك نتعجب! ونتساءل: ألهذا الحد تمسك إسرائيل بخناق العالم وتتحكم في بلدانه وقادتها، كبيرهم وصغيرهم؟! هل من المعقول أن تكون دولة بالإمكانيات الاقتصادية والبشرية التي نعرف والتي لا ترقى بأي حال إلى دول الصف الأول في العالم من حيث القدرات الاقتصادية والبشرية والعسكرية والعملية – هل من المعقول أن تكون بهذه السطوة والنفوذ اللذين تجعل بهما العالم يقف عاجزاً عن فعل أي شيء لا يرضيها ناهيك عن لا يغضبها؟!
هي دولة خارجة على القانون الدولي نعم، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يجبرها على وقف أعمال الاستيطان في المستوطنات رغم أن العالم كله بما في ذلك الولايات المتحدة يعتبر أن المستوطنات غير شرعية (وقد ذكر ذلك بالمناسبة الرئيس أوباما في خطابه أمام الجمعية العامة يوم الأربعاء 23 سبتمبر المنصرم)؟! لا أحد!.. اللجنة الرباعية التي تضم ممثلي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا ومنظمة الأمم المتحدة، التي عقدت اجتماعاً في اليوم التالي لخطاب أوباما في الجمعية العامة وبعد ثلاثة أيام من الاجتماع البروتوكولي الذي رتبته واشنطن (‘عن العين والنفس’ – مثل شعبي خليجي) وجمعت فيه نتيناهو وعباس مع الرئيس أوباما – هذه اللجنة ‘المهيبة’ خرجت ببيان مفاده أن على كافة أطراف النزاع في الشرق الأوسط ‘أخذ المخاوف الأمنية الإسرائيلية بعين الاعتبار’!!.. والله فشيلة. إنها فضيحة هذا الكيان الغاصب الذي يحتل القدس الشرقية منذ عام 1967 على الضد من كل قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن التي لا تعترف بهذا الاحتلال، والذي يواصل عمليات التطهير العرقي فيها بطرد العائلات الفلسطينية من بيوتها في المدينة لتسكن في العراء ويحل محلها عائلات يهودية، والذي بات يعمل على المكشوف على إضفاء الطابع العنصري على الدولة اليهودية من خلال حزمة إجراءات لم يعد يخفيها حكام إسرائيل وإنما يعلنونها على الملأ ويدبجونها في تشريعات ملزمة التطبيق – هذا الكيان هو نفسه الذي كافأته الأمم المتحدة بقرار ينزع عنه صفة العنصرية! تتوالى على هذا الكيان حكومات رأسها وتوزَّر فيها أشخاص ارتكبوا مجازر لا لبس ولا غبار عن مسؤوليتهم الشخصية – فضلاً عن السياسة – في ارتكابها، بما في ذلك الحكومة الحالية. ومع ذلك لم يجرأ ولا يجرأ أي مسؤول أوروبي متنطع على أن يشير إليهم، فقط يشير إليهم بالإصبع، بأنهم مذنبون يجب أن يمثلوا أمام العدالة الدولية. بالمقابل، وبالعودة إلى موضوع المقايضة المهزلة: التطبيع مقابل تجميد الاستيطان، فإن الملام الأول والأخير في هذا المستوى البائس من الأداء السياسي العربي العام، هم الفلسطينيون والعرب عموماً، فهم الذين حولوا أنفسهم إلى لقمة سياسية ودبلوماسية سائغة في فم الدبلوماسية الإسرائيلية المخادعة، إذ لم يفرضوا منذ البدء، منذ انطلاق مفاوضات أوسلو وقف الاستيطان وإنما وافقوا عوضاً عن ذلك على تأجيل البت في قضايا الحل النهائي!! نعم هو نظام سياسي عالمي أعور ولكن ماذا فعلنا نحن لمقابلة تحديه؟ لا شيء!
الوطن 3 أكتوبر 2009