حينما وثق الدكتور عبدالعزيز حمزة كتابه “دموع على جزيرة” ليؤرخ ابرز الكوارث التي مرت بها البحرين في تاريخها الحديث على اختلاف انواعها جاء توثيقه دقيقاً شاملاً بتواريخ وقائع تلك الحوادث، مستفيداً في ذلك مما هو متوافر تحت يديه في المؤسسة العامة الصحية التي يعمل فيها من وثائق وسجلات واوراق يرجع بعضها إلى بدايات القرن الآفل، ومستنداً في ذلك أيضا الى تجربته العملية من المهنة التي يمتهنها. على ان هاتين المزيتين اللتين استفاد منهما في الكتاب الأول المذكور افتقر إليهما في كتابه الثاني “طبعة البلاد القديم”، فواقعة الطبعة حدثت عام 1949م في وقت لم يولد فيه بعد الطبيب حمزة، والخدمات الصحية مازالت في بداياتها، ومن ثم لا توجد أي سجلات أو وثائق صحية تتضمن ذكراً او اشارة من قريب او بعيد لحادثة غرق سفينة مخيمر التي نكب فيها زوار البلاد القديم المتوجهون إلى جزيرة “النبيه صالح”.
وكان حمزة قد دون حادث طبعة البلاد القديم، التي اطلق عليها الطبعة الصغرى 1949م تمييزاً عن الطبعة الكبرى عام 1925م، في كتابه الأول معتمداً على قصيدة شهيرة نظمها الشاعر الخطيب الحسيني الراحل المشهور ملا عطية الجمري. بيد ان هذه القصيدة تحديداً وما تتضمنه من وصف بلاغي دقيق مؤثر لوقائع الكارثة وما خلفته من مآس انسانية فاجعة سرعان ما ستغدو بعيد صدور الكتاب حافزاً كبيراً للمؤلف إلى التنقيب عن كل خفاياها المجهولة وصولاً الى توثيقها والتوسع في كل جوانبها واصدارها في كتاب خاص مستقل.
وقد لعبت المصادفات دوراً في دفع حمزة إلى التصميم على خوض هذا المعترك البحثي الكبير الذي اخذ منه جهودا كبيرة جبارة ساعده فيها فريق من المتطوعين من اصدقائه وزملائه في المهنة، وثلة طيبة من اعيان وأهالي البلاد القديم و”النبيه صالح”. ففيما كان يطلع الصديق الدكتور عبدالعزيز حسن الشعباني على قصيدة الجمري حول حادث الطبعة التي تأثر بها أيما تأثر ووثقها في كتابه “دموع على جزيرة” كشف له الشعباني ان له طفلاً شقيقاً من امه يحمل اسمه كان من ضحايا طبعة البلاد القديم، وقد حدثته امه الحاجة مريم محمد جواد عن ذلك فشعر الدكتور حمزة في الحال بأنه عثر على ضالته التاريخية المنشودة للدخول على الفور في مشروع توثيقي كبير لكارثة الطبعة الصغرى التي وقعت قبل 60 عاماً من خلال جمع أكبر ما يمكن من معلومات والحصول على ما يمكن من وثائق عنها من خلال الالتقاء مباشرة ببسطاء الناس في قريتي البلاد القديم والنبيه صالح، سواء من الناجين من الكارثة، أم من أقربائهم، ام ممن كانوا شهوداً على أحداثها المأساوية في يوم حدوثها.
وعلى الفور طلب حمزة من صديقه الشعباني مساعدته في مقابلة والدته ولتكون بعدئذ هذه الفعالية فتحاً مبينا لسلسلة طويلة من المقابلات والزيارات لشهود الواقعة من اقرباء الضحايا والناجين منها. وبفضل تدفق حماسه الوطني التاريخي العلمي لتوثيق الكارثة وقوة ارادته وتصميمه على انجاز المهمة فقد توافر له فريق كبير مساعد في عملية البحث تشجع افراده بتشجعه، وقد توسموا فيه هذه الروح العالية المفعمة بالحماس والمسؤولية العلمية التاريخية التي نذر المؤلف نفسه لاتمامها، بدءاً من الدكتور الشعباني ومروراً على وجه الخصوص بأهالي البلاد القديم، وشقيقه رياض حمزة والمؤرخ علي أكبر بوشهري، والدكتور رؤوف المدحوب، وليس انتهاء بمن حرص الباحث على تعداد أسمائهم في مقدمة الكتاب، ناهيك عن الفريق الفني الذي اخرج الكتاب والفيلم الوثائقي الخاص “الوعد للإنتاج الفني” وقد خرج بفضل هذا التنقيب والغوص في أعماق مجاهيل الحادثة التاريخية بحصاد وفير يشفي غليله لإتمام توثيقها واصدارها في كتاب.
ومع ان المؤلف حصل من خلال عملية جمع شهادات الاهالي عن الكارثة ومن خلال ايضا تنقيبه في بعض المصادر والسجلات التاريخية على شذرات من الوثائق التي تشير على نحو عابر للحادثة أو ما يرتبط بها من أمكنة، كالوثائق الرسمية التي تشير إلى مسجد أو منطقة “الكرشية” التي تنطلق من سيفها السفن المتوجهة من “البلاد القديم” إلى جزيرة “النبيه صالح”، وكوثيقة مدونة بلجريف المتضمنة على نحو عابر الإشارة الى الطبعة وتاريخ وقوعها، إلا ان قصيدة الملا الجمري المشهورة التي مطلعها: “مصاب أهل البلاد الجايدة أخباره.. شعبني ويا قلب ما تشتعل ناره” ظلت محتفظة حتى الآن بقيمتها العظمى ما بين كل المصادر والمراجع والمرويات الشحيحة عن الكارثة، وذلك لما تتميز به من دقة بيانية بلاغية في وصف الكارثة ومكانها وزمانها وصفاً مشوباً بالحرارة العاطفية الصادقة فكأنك بذلك وأنت تقرأ القصيدة تشعر مع الشاعر معاً كأنكما ممن كانوا على متن السفينة أو ممن شاهدوا بأم اعينهم اللحظات الاخيرة المروعة لمأساة غرق ركابها.
القصيدة – الوثيقة لم تكن مرجعا مهما محوريا في توثيق الكارثة فحسب، بل تأثر بها المؤلف وشقيقه د. رياض أيما تأثر واشعرتهما كأنهما مع صديقهما الدكتور الشعباني يعيشون جو مأساة بكل فصولها وانها واقعة توا وليس قبل 60 عاماً، إلى درجة حملت الدكتور حمزة تحت وقع تأثير هذا الجو المأساوي الذي انفعل به أن ينظم قصيدة هو الآخر رائعة تنم عن موهبة في هذا الشأن.
والراجح ان قصيدة الجمري قد نظمها غداة وقوعها في عام الكارثة 1949م نفسه. ولعل مما يرجح هذا الاحتمال ان بين يدي وضمن مقتنيات مكتبتي الخاصة الطبعة الأولى من كتاب البحاثة التراثي الراحل الشيخ محمد علي الناصري “تنفيه الخاطر وسلوة القاطن والمسافر” الصادرة عام 1954م أي بعد نحو خمس سنوات فقط من وقوع الحادثة.
وبالاضافة إلى قصيدة الجمري ثمة قصيدة في هذا الشأن للخطيب العدناني السيد محمد صالح السيد عدنان الموسوي عرضها المؤلف حمزة في كتابه ولربما ثمة قصائد اخرى لا نعلم عنها كما يشير الناصري في تقديمه لقصيدة الجمري في كتابه المذكور.
صحيفة اخبار الخليج
30 سبتمبر 2009