منذ أكثر من ربع قرن ألقى إدوارد سعيد أول خطاب له باللغة العربية في القاهرة. حين أنهى الخطاب دنا منه أحد أقربائه معبراً له عن خيبة أمله، لأن المحاضر لم يكن فصيحاً بما فيه الكفاية. يقول ادوارد سعيد انه سأل قريبه الشاب بصوت يحمل أنة الشكوى: هل فهمت ما كنت أريد قوله؟ فأجاب الشاب بـ “نعم”، فهو فهم كل شيء، ثم أعاد القول: “لكنك لم تكن فصيحاً خطابياً”. هذه الملاحظة ظلت تلاحق ادوارد سعيد فيما بعد، عندما يتكلم بالعربية أمام جمهور واسع، وبعباراته هو نفسه: “أنا عاجز عن التحول إلى خطيب فصيح، لأني أخلط الاصطلاحات واللهجات المحكية والكلاسيكية بأسلوب براجماتي”. ويعقد ادوارد سعيد مقارنة بين الطريقة التي يتحدث بها بعض المثقفين العرب، اليساريين منهم خاصة، وبين طريقة زعماء ذوي نفوذ مثل جمال عبدالناصر وياسر عرفات. برأيه أن الاثنين يستعملان في جلساتهما الخاصة اللهجة المحكية أفضل من المثقفين. كان عبدالناصر يتحدث إلى الجماهير باللهجة المصرية مع جمل مؤثرة بالفصحى، فكان لخطبه وقعها القوي على الآذان والنفوس والأذهان، لكنه يرى أن شهرة ياسر عرفات كخطيب هي دون الوسط بسبب أخطائه اللغوية وموارباته وتعميماته الكلامية. هذه التقييمات جاءت في مقال عميق، يجمع بين الجدية ودقة التحليل وبين الطرافة، كتبه ادوارد سعيد، يناقش فيه السؤال التالي: “كيف نتكلم العربية ونكتبها؟”، منطلقاً من تجربته الخاصة. لكنه، إلى ذلك، يقدم أحكاماً جديرة بأن تقرأ، منطلقاً من ملاحظة أن العرب جميعاً يستخدمون لهجة محكية تتنوع جداً من منطقة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر. هو شخصياً كبر في عائلة كانت لهجتها المحكية، مزيجاً مما كان مستعملاً في فلسطين ولبنان وسوريا، لكنه يعتبر اللهجة المصرية الأكثر سرعة وأناقة من كل ما تعلمه من لهجات من أفراد عائلته، فضلاً عن أنها كانت أكثر انتشاراً فبسبب السينما والتلفزيون والمسرح والتمثيليات الإذاعية والأغاني باتت تعابيرها مألوفة لدى العرب جميعاً. منذ نحو ألف سنة، أقام كتّاب بغداد كالجاحظ والجرجاني وغيرهما منظومات معقدة إلى أعلى حد ومدهشة بعصريتها. لكن اللغة كائن حي ينمو ويتطور، ولساننا العربي اليوم هو، أيضاً، نتاج مسيرة التحديث التي بدأت في أوائل القرن التاسع عشر بجهود رواد النهضة في مصر وبلاد الشام الذين أدخلوا مفردات وتراكيب جديدة. العامية أو اللهجات المحكية لا تموت، والفصحى لا تسود، ولكن يتشكل اليوم خليط بين الاثنتين، العامية تطوع نفسها لتصبح أقرب إلى اللغة الفصحى، فيما تتخلى الفصحى عن قاموسيتها الصارمة لتأخذ من المحكي بعض أوجهه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى ينشأ هجين محكي على ألسنة الجيل الجديد من الجنسين، فيه بعض المحكي من اللهجات وفيه الكثير من المفردات والتعابير باللغة الانجليزية. حتى سنوات قليلة كنا نلحظ هذا الأمر عند العدد المحدود من العرب الذين أنهوا تعليمهم العالي في الغرب، لكن التعليم الخاص بالانجليزية في بلداننا الذي يستوعب أكثر فأكثر أعداداً لا من أبناء الأثرياء فحسب، إنما من أبناء الشرائح الوسطى أيضاً عمم هذه الظاهرة، التي ستترتب عليها مفاعيل قادمة في الطريقة التي بها سوف يتكلم ابناؤنا وأحفادنا، وعلى طريقة وعيهم ومعرفتهم، إذا تذكرنا أن اللغة هي وعاء المعرفة.
صحيفة الايام
30 سبتمبر 2009