تشيرُ قصة الجنة إلى الملكية العامة التي ظهرتْ في الشرق في الأزمنةِ القديمة المغلفةِ بالغموض والاستبداد، وقد كانت جنة زراعية، حيث لم تستطعْ الحرفُ والصناعاتُ أن تظهرَ على مسرح التاريخ بشكلٍ مؤثرٍ في مجالِ الوعي والتخييلِ القصصي الناسج للتاريخ ومصائر البشر وقتذاك.
هي ترميزٌ للملكيةِ العامة وما حولها من قوى سياسية مؤثرة، ولأنها ملكية عامة مخصصة للكادحين من البشر الذين زرعوها وسقوها ونظموها، فقد كانت لهم، مخصصة لعيشِهم وحاجاتهم، لم يكن أحدٌ ينازعهم فيها.
في مستوى المادة الواقعية اليومية وقتذاك، كان البستان والمزرعة والحقل هي السائدة من الإنتاج، وهي التي تنشىءُ القصورَ والبيوتَ والامبراطوريات الحاكمة، والتي تسعى لها هذه في ختام الصراعات والحروب.
أما نقيضها (جهنم) فهي الصورة المضادة، المُنتزعة مما كان يجرى من حرق للأشياء الفاسدة المُلقاة من مدينة القدس، وحين تـُحرق تلك الأشياء يكون لها تأثير وأدخنة، وصور في أذهان البشر، عما يجب تطهيره في نفوسهم، وعن الأوبئة والشخصيات الشريرة التي يجب تعذيبها مثلما يجرى للمادة الفاسدة في المدينة حتى تتطهر وتكون أنظف وأنقى.
كانت صورُ الثعبان والحية والشيطان المتسلل للجنة على مستوى التعبير الفني، هي مجموعة من الرموز المتعددة، ومن أهم معانيها قوة الثقافة وقدرتها على إيجاد التحول والتحدي للسلطاتِ المسيطرة على الثروة العامة، سواءً كانت هذه الثروة أشجاراً مولدة للخير والطعام، أو قوى فكرية عامة يغدو فهمها وتفسيرها مادة جديدة للتحول في المجتمع والتاريخ.
هي قوة التحدي وهي تدخلُ في الملكية العامة المُسيطر عليها، فتكشفُ العري الاجتماعي والفساد، وهي محاولة الكادحين للاقتراب من السلطة المسيطرة، وتحديهم لها ومماثلتهم لمكانتها الرفيعة.
إن الكادحين ويمثلهم آدم وحواء هم من مادة الطين والأرض، هم سلالة العاملين، الأرضيين، الذين عاشوا في فترة من التوحد في الجنة، حين كانت لهم، حين كانت جزءًا من ثمار عملهم، وفجأة من دون أن يعلموا لماذا وكيف تصيرُ غريبة عنهم، مضادة لوجودهم، ملغية لرفعتهم نازلة بهم إلى أسفل سافلين؟
وفي كل ملكية عامة سواء كانت بستاناً أو شركات عامة نفطية أو فوسفاتية أو اتصالية، تغدو باسم الكادحين، ومن أجلهم، ولرفعة وتقدم الوطن، ثم تغدو للملاك الخاصين، ويُطرد العاملون منها، بالفصل، أو بالبقاء الرمزي.
الذي يحولُ الوضعَ في الجنة من النعيم إلى البؤس هو الأفكار، هو عملية الاكتشاف، هو قوة تحدي الفقراء للمُلاك ومحاولتهم أن يفهموا ويكشفوا العري الاجتماعي، وألا يكونوا هامشيين أو أن يتم إلغاؤهم بطردٍ وفصلٍ وتغييبٍ عن تاريخ الإنتاج، فهم صناع الجنة لكن تمت إزالة ملكيتهم لها.
إن الأفكارَ بكلِ رموزها من تكوينِ قصص وأشعار وأبحاث هي شجرة الخلود، بما تضفيه على الإنسانية من خير وتقدم، وقد تم تخصيصها في عُرف مُلاك البستان الاستغلاليين لهم من دون غيرهم، وألا يتم الاقتراب منها، وألا يأخذ البشر العاملون الفانون الهامشيون من نورِها وثمارِها، لكي يظلوا فانين وعابرين غير خالدين غير ملتحقين بالعظمة.
المعرفة تعطيهم الخلودَ والبقاء، واستمرارهم في الجهل يبقيهم في التاريخ العابر، والطينُ يبقى طيناً، والجهلة لا يقبسون من الحكمة والمعرفة، ويستمرون جماداً.
تحولهم للألوهية، أي للخلود، يفترض صعودهم للمعرفة، وصناعتهم للتحدي، ولجعلهم البستان ملكية عامة حقيقية، وهذا يرفعهم من مادة الطين، من كونهم مجرد أدوات، ومن كونهم أشياء في صناعة البستان، إلى كونهم مالكين، وإلى كونهم نوراً، وصيرورتهم بشراً من رفعة وسمو وليس فقط وجوداً غائباً متخدراً.
لكن في التاريخ القديم ليس ثمة إمكانية لكي يظل آدم وحواء مالكين لبستانهما، وهما رمزا البشر العاملة، العادية، المتعددة المستويات بين ذكور وإناث، فيسقطان في حركة التاريخ الحقيقية من الملكية إلى البستان، إلى العمل الأبدي فيه، ويترنحان من القمة للسفح، ويعانيان كل المعاناة في العمل المرير والعيش والولادة والبناء.
في وجودهما على أرض ما بعد الجنة، ما بعد الملكية العامة، بداية لتاريخ العمل القسري الكريه وهيمنة الاستغلال وظهور الحكومات وأدوات القمع وكل تاريخ الاضطهاد.
ليس تاريخ الجنة تاريخا خياليا بل هو عصارة لتاريخ البشرية في زمن الملكية العامة، وصدى تصويري ترميزي له، ثم يُستعاد كحلم، ويوظف في الأمثولات والحكايات والقصص الدينية والأنظمة السياسية والنظرات الذكورية الاضطهادية لجنس النساء، ولأفكار الخلود والعقاب والتطوير الأخلاقي للبشر.
صحيفة اخبار الخليج
29 سبتمبر 2009