ظلت أوروبا قبل الثورة البلشفية، تعتبر نفسها الوريث الدائم للمركزية الأوربية على مستوى العالم من منظور رأسمالي بحت ينتمي لمرحلة ما بعد الكولونيالية، وبأنها مركز الإشعاع العلمي والنهضوي، بل واعتقدت أوربا أنها قارة واحدة بنظام واحد، حتى وان تميزت بصراعات قومية ونشوء دول حديثة وتقسيم حدود فيما بينها، فقد كان القرن 20 مختلفا عن القرن السابق الأكثر توترا بالحروب القومية الداخلية في القارة، بما فيها اختفاء الإمبراطوريات الشرقية على مشارف حدود القارة كما هي الإمبراطورية العثمانية، غير إن الشبح الذي اختفى مع اختفاء نقيضه القيصري في القارة وانتصار الجزء الأوربي الغربي من القارة على تلك الإمبراطوريتين الكبيرتين في الشرق كالقيصرية والعثمانية، الأولى تميزت بأرثوذكسيتها والثانية بإسلامها لم ينته تماما، وكلاهما كان لديه حلم في تلك القارة العجوز. لم تنته يقظة وأحلام القارة من شبح الحرب الدائم، فمع الثورة البلشفية شهدت القارة ولأول مرة في تاريخها ولادة نظام عالمي جديد قائم على الثنائية الإيديولوجية، مجددا طبول الحرب والتلويح بها والعيش داخل دائرة التهديد والتوتر، خاصة وان القارة ولدت مع حربين عالميتين وكانتا سببا ونتيجة لولادة تلك العملية المدمرة للعالم الا وهي الحرب، فقد اتسعت مجالاتها إلى خارج حدود القارة وقد دفعت ثمنا باهظا له الشعوب قبل الأنظمة بنزعتها الاستعمارية الجديدة. ومع تطور العملية السياسية في القارة بين النظامين العالميين الجديدين خلال سبعة عقود وتنامي تطور العملية العسكرية وتزايد هوس التسلح بين المعسكرين، كانت الولايات المتحدة العراب الأكبر لحماية الحلفاء في القارة أثناء وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. كان على الخصمين / الصديقين مؤقتا ضد الهتلرية، أن يعودا إلى موقعهما الإيديولوجي حال انتهاء الحرب وتقاسم كبار القارة ألمانيا المهزومة المدمرة، لهذا وجدنا ان أول المباركين لتلك الخطوة الأمريكية هي ألمانيا لكونها كانت مصدر حربيين عالميتين. كان مؤتمر يالطا التاريخي نهاية المطاف المأساوي للحرب. ولكن هل بالفعل لم تشهد القارة حربا ثالثة؟ الإجابة نعم قياسا بالحربين الماضيتين، ولكن الاحتكاكات والمواجهات والتوترات ظلت قائمة بل وتجلت كثيرا في المواجهات العسكرية في ألمانيا المقسمة وتحديدا برلين تلك المدينة المشوهة والمقسمة بشكل عجيب داخل بنية نظام »المرحومة« ألمانيا الشرقية. هكذا عاش العالم بين حدي السكين والأسنان النووية والصواريخ المنصوبة والمتسارعة في قدراتها التدميرية، إلى أن بلغت بين الصقور المتواجهة في القارة حد التفكير في الدخول إلى مشروع فكرة التسابق في عسكرة الفضاء، ذلك المشروع الجنوني الذي عرف بمشروع حرب النجوم. كانت السياسة السلمية والتفاوض يتناوبان مع التسلح والتسويات السلمية جنبا إلى جنب كثنائية الصراع المستمر بين القطبين العملاقين، انطلاقا من مبدأ فلسفة الردع والتوازن العسكري بين النظامين العالميين. وكان مبدأ محاولة إبعاد العالم عن شبح حرب عالمية ثالثة راسخا في الأذهان، خاصة بعد تأسيس منظمة دولية تعني بسلام العالم وتنميته على أسس عادلة! هذا الحلم الإنساني ربما بدا وهجه يظهر بفرح للأوربيين عامة وللألمان خاصة عندما انهار جدار برلين، ومن ثمة انهارت المنظومة، غير ان ترسانة السلاح المكدسة في القارة ظلت كما هي، وظلت روسيا الجديدة في القارة الأوربية خارج نطاق المشاريع الكبرى في القارة كمشروع قيام الاتحاد الأوربي وإعادة رسم وبناء أوربا الجديدة ما بعد القطبية الثنائية، سمع العالم مجددا الخطاب السلمي بحذر، وسمع مجددا اسطوانة مشكوكا في مصداقيتها حول أهمية توسيع دور حلف الناتو خارج دوله وخارج القارة القديمة. وكدنا نصدق ان المؤسسة العسكرية وصناعة السلاح في عصر العولمة سوف يتناقص، وان القوة العسكرية ستكون حارسا أمينا للديمقراطية!! نعم الديمقراطية في حضن القوة الدولية المدججة بالسلاح ابتداء من العراق ومرورا بباكستان وانتهاء بأفغانستان وأمكنة عدة لم تخلو منها قارة أمريكا اللاتينية مؤخرا إزاء القواعد العسكرية المتعددة في كولومبيا، بحيث اعتبرته دول القارة تهديدا لأمنها، فيما تواصل صقور البنتاغون المحاولة في تمرير خطاب الكذب العالمي، بأن تلك القواعد لمكافحة تجار المخدرات والجماعات المتطرفة والإرهاب! كان ذلك ممكن مع دول صغيرة غير إن تفتيت القارة وإعادة هيكلتها بعد الاتحاد السوفيتي تمت قراءته خطأ في مرحلة ثمالة يلتسن وتبعيته للاملاءات الأمريكية »بعسل الاستثمارات الكبيرة« ولكن روسيا ليست بقالة صغيرة ولا حديقة خلفية، وإنما روسيا الجديدة هي ارث قيصري أوروبي وسوفيتي، تمتلك ثروة وطاقة بشرية هائلة وفي قلب القارة ومفتاح الجزأين الشرقي والغربي والاورواسيوي، وكل نوافذها مفتوحة بحجم حدودها ونفوذها. فكان الدرس الروسي في جورجيا والحروب البلقانية والشيشانية وغيرها يؤكد ان روسيا ذراع هام لثنائية العالم أو جماعيته في مواجهة الإرهاب والتخلف ودمقرطة العالم على الأسس الحرة الغربية المنشودة. ولكي تعيد الولايات المتحدة قراءة ملفاتها السابقة في إدارة اوباما بشكل سليم، كان عليها أن تزيل عنها ازدواجية المرحلة السابقة فلا يمكن من جهة تهديد روسيا بنصب الصواريخ في دول مجاورة وفي ذات الوقت مناشدة روسيا أن تكون الحليف الاستراتيجي في لجم وحث إيران عن نواياها في تملك أسلحة الدمار الشامل، وبان تصبح روسيا مستقبلا جزءا من القوة الفاعلة في ملاحقة خزان الإرهاب في أفغانستان وحدود باكستان واسيا الوسطى. لقد تم إعادة بناء البلقان وهذا هو الحلم الأوربي، وتم إزالة النظام الاشتراكي ومعسكره من القارة وهذا هو الحلم الأكبر، وجاء الوقت لبناء أوربا قوية وحليفا هاما وموحدا مع صديقه فيما وراء المحيط من اجل بناء عالم مختلف ومتنوع قائم على التكافؤ والعدل الدوليين بين دول وشعوب العالم. لهذا فان مشروع بوش في محاصرة روسيا عسكريا وفي التعامل معها بخطاب العسكرة فشل نهائيا، وان التسابق العسكري سيكون على حساب التنمية في ظل وجود أزمة دولية خانقة تحتاج الدول لعقد كامل من إنفاقها في تنمية الموارد البشرية ومواجهة البيئة المدمرة. لهذا كان من الطبيعي أن ينتصر اتجاه السلام والحمائم في القارة الأوربية الجديدة والعالم، في مواجهة الصقور المولعين بتسويق السلاح وإشعال بؤر التوتر والحروب الأهلية اللعينة على حساب أولويات عدة تهم حياة الإنسان ومستقبله.
صحيفة الايام
29 سبتمبر 2009