مثلت أعمال الباحث سيد القمني كتابات جريئة في الوعي المصري والوعي العربي عموماً لبحث جذور الأديان السماوية في هذه المنطقة معتمدة على المصادر العديدة في دراسة تاريخ الحضارات القديمة في كل من مصر والعراق خاصة.
وكان الهجوم الأخير عليه الذي تعلق بتزوير شهادة الدكتوراة لديه هو خروج عن نص الصراع الفكري، إلى ساحات ذاتية تؤشر إلى ضعف الصراع الفكري الموضوعي المتحضر نحو إنهاء عمليات الإبداع والسجال والبحث الجدي.
ما يأخذهُ الأساتذة الناقدون في مجال أطروحات سيد القمني عليه هو أنه غاص في أشياء عتيقة وأديان غريبة، لا يقومون بالبحث فيها ونقدها، بل يتهربون من عرضها ومناقشتها، فيجدون في مسائل مثل الشهادات مجالاً خصباً للتجريح ونسف قضايا البحث.
وتكشف هذه القضية عن الاتجاهين المستمرين في فضاء الثقافة المصرية والمتصارعين منذ بداية القرن العشرين، بين الاتجاه الليبرالي المصري الغربي، وبين الاتجاه الديني المصري المحافظ.
لقد قام رواد البحث والليبرالية والتنوير المصريون بخدمات بحث كبرى في تاريخ الثقافة العربية، ونقلوا مناهج الاستقراء والشك الديكارتيين والعقلية الموسوعية لرواد التنوير الغربي وبحثوا في التراث العربي عبر هذه الأدوات، فاصطدموا بالمتحجرات الاجتماعية غير القابلة لمثل هذه الكشوف التي فزعت فزعة كبرى ضدها، مستخدمة أدوات القمع والحجر والفصل من الوظيفة ومنع الكتب ومطاردة المؤلفين في بحثهم وعيشهم ثم تأليف الأحزاب المحافظة وتقويتها للوقوف ضد هذا السيل الغربي.
كانت الليبرالية السياسية والليبرالية الثقافية المصريتان مندمجتين متضافرتين في لحظة تاريخية معينة، ثم انفصلتا، وبقيت الليبرالية السياسية تشتغل في فضائها السياسي المتردد بين الفئتين الوسطى والارستقراطية، في حين توجه قسم مهم من هذه الليبرالية نحو الجمهور الشعبي، وإلى دين هذا الجمهور، وقد تجلى ذلك في تحولات طه حسين وعلي أمين وعبدالرحمن الشرقاوي، لكن هذا الاتجاه على ضخامة مؤلفاته وأهميتها لم يحل التناقض بين الليبرالية والإسلام، أي لم يدغم الليبرالية ومناهج البحث الحديث الغربي التي تدور في الفلك الفكري لليبرالية في معالجة قضايا الإسلام والعرب، فلم يسيسها ويجعلها تعيش بين الناس بدلاً من أن تكون قضايا في مؤلفات ومناهج لدى النخب.
وجاءت الفترة العسكرية الوطنية مضادة لنهج تطور الحريات والبحث الحر الموضوعي، فأخمدت الليبرالية من جهة، ونهج البحث النقدي في تاريخ المسلمين من جهة أخرى، فتضخمت الاتجاهاتُ المحافظة خاصة في الجانب الديني التي صارت هي راية المقاومة ضد الحكم العسكري.
جاءتْ مؤلفاتُ سيد القمني وغيره من الباحثين المصريين وخاصة أستاذه لويس عوض، في اتجاه تحجيم الإسلام أو نقده أو استصغاره، عبر رؤى ترى أن الإسلام هو نتاج متخلفين، نتاج عرب بدو، ومن خلال صراع غير مرئي في الحياة المصرية بين (الفرعونية) ذات الجذور الوطنية والتاريخية العميقة وبين التراث العربي القادم من الخارج، من الصحراء المجدبة ثقافيا، الذي هو ضد الحضارة الغربية والحداثة وضد المسيحية.
كما أن الاتجاه المحافظ الإسلامي القادم مع الحركات السياسية اليمينية المتطرفة قد توجه إلى أقصى اليمين وأنتج ظاهرات إبادة الآخر ثم الارهاب وما يجسد ذلك من فاشية، فقد توجه أقصى طرف لليسار العلماني إلى إبادة الآخر عبر إلغائه ونفيه من ساحة المنطقة والعصر.
الاتجاهان يمثلان عملة واحدة، هي عملة عدم القراءات التاريخية الموضوعية للتراث الإسلامي وللتراث المسيحي وللتراث القديم، ورؤية الاتجاهات داخلها وسيروراتها التاريخية ومراحلها، وفرض توجهات ايديولوجية سياسية راهنة على التاريخ.
وهذا ما نلاحظهُ في العديد من أطروحات سيد القمني، فقد شكك في أصل العرب في جزيرتهم العربية، وله تحليلات جيدة في تاريخ الإسلام لكن من دون الجذور الاجتماعية العميقة له ولآثاره النهضوية بل توجه نحو تصغير متعمد، وفي كتابه المتعدد الأجزاء عن اخناتون قال إن النبي موسى عليه السلام هو اخناتون، ومثل هذه الفرضيات الكبيرة لا تلتزم بنهج علمي فهي لا ترتكز على أدلةٍ ملموسةٍ من آثار، بل على أدلةٍ لغويةٍ وحيثياتٍ قرائية نصوصية، يتم فيها تحوير المصطلحات وتغيير الكلمات حسب هوى الباحث، فهي منهجُ إسقاط معاصر ايديولوجي بامتياز.
ويجيء هذا البحث المغرض في جوانب منه في مواجهة اتجاهات تنزه الماضي تنزيها غيبيا بلا قراءات موضوعية هي الأخرى، ويقوم بعد ذلك كلُ اتجاه منهما بتمزيق الآخر، إما عبر تهديدات مؤسفة بالقتل، وإما باستصغار طفولي لمقدسات الآخرين العريقة.
صحيفة اخبار الخليج
30 اغسطس 2009